سادسا، الدوس على القواعد الدولية يفضي إلى كوارث إنسانية
في وقت تشتد فيه حاجة العالم إلى الوحدة لمكافحة جائحة كوفيد-19، تصر الولايات المتحدة على المضي قدما في تطبيق أجندة "أمريكا أولا" والانعزالية والأحادية وفرض عقوبات بشكل تعسفي والتنمر على المنظمات الدولية وتهديدها وإساءة معاملة طالبي اللجوء، وهو ما جعل البلاد أكبر مثير للمشاكل على صعيد الأمن والاستقرار العالميين.
انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية. وسعيا للتنصل من مسؤوليتها إزاء تدابيرها الكارثية على صعيد مكافحة الجائحة، حاولت إدارة ترامب تحويل منظمة الصحة العالمية إلى كبش فداء من خلال اختلاق اتهامات كاذبة ضد المنظمة. وفي 14 أبريل عام 2020، أعلنت الحكومة الأمريكية تعليقها دفع مستحقات منظمة الصحة العالمية، وهو ما لقي انتقادا بالإجماع من قبل المجتمع الدولي. وأصدر أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، بيانا في 14 أبريل عام 2020، قال فيه إنه في الوقت الذي يكافح فيه العالم جائحة كوفيد-19، فإنه ليس من المناسب تقليص الموارد اللازمة لمنظمة الصحة العالمية أو أي منظمات أو عمليات إنسانية أخرى.
وفي 15 أبريل عام 2020، صرح باتريس هاريس، رئيس الجمعية الطبية الأمريكية، أن مكافحة الجائحة تتطلب تعاونا دوليا وأن تعليق الدعم المالي لمنظمة الصحة العالمية في هذه اللحظة الحرجة خطوة خطيرة في الاتجاه الخاطئ. وفي 15 أبريل عام 2020، نشر موقع صحيفة "ذا جارديان" مقالة افتتاحية ذكرت أنه في الوقت الذي يحتاج فيه العالم بصورة ماسة إلى التغلب معا على هذا التهديد الذي لم يشهده العالم من قبل على الإطلاق، يعد تعليق الحكومة الأمريكية لمستحقات منظمة الصحة العالمية عملا يفتقر إلى الأخلاق ويعرقل النظام العالمي، فضلا عن كونه خيانة شنيعة للتضامن العالمي. وفي يوليو عام 2020، أعلنت إدارة ترامب بصفاقة انسحابها من منظمة الصحة العالمية رغم معارضة المجتمع الدولي.
تخلت الولايات المتحدة عن التزاماتها وانسحبت من اتفاقية باريس للمناخ. كان يتعين على الولايات المتحدة، بوصفها أكبر باعث تراكمي لغازات الاحتباس الحراري في العالم، الاضطلاع بأكبر قدر من مسؤولية تقليص الانبعاثات استنادا إلى مبدأ مسؤوليات مشتركة لكن متفاوتة. بيد أن الولايات المتحدة عكست بلا ضمير مسار عجلة التاريخ وانسحبت رسميا من اتفاقية باريس للمناخ في 4 نوفمبر عام 2020 لتصبح الدولة الوحيدة من بين زهاء 200 طرف مُوقع، التي تنسحب من الاتفاقية. وأجمع المجتمع الدولي على أن الخطوة الأمريكية قصيرة النظر سياسيا وخاطئة علميا وغير مسؤولة أخلاقيا.
وقالت ناتالي ماهوالد، عالمة المناخ بجامعة كورنيل والمؤلفة المشاركة لتقارير الأمم المتحدة حول الاحتباس الحراري العالمي، "إن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ قد يقلص الجهود الرامية إلى التخفيف من تأثيرات تغير المناخ، ومن ثم قد يزيد عدد الناس الذين يكون وضعهم بين الحياة والموت جراء تداعيات التغير المناخي".
أعمال التنمر هددت المنظمات الدولية. في 11 يونيو عام 2020، فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات اقتصادية وقيودا على السفر ضد موظفي المحكمة الجنائية الدولية وأفراد أسرهم لقيامهم بالتحقيق في احتمالية ارتكاب جنود وضباط استخبارات أمريكيين جرائم حرب في أفغانستان وأماكن أخرى. وذكر مقال نشر على الموقع الإلكتروني لـ "يو.إن نيوز" في 25 يونيو عام 2020، أن العقوبات الأمريكية ضد موظفي المحكمة الجنائية الدولية هي "اعتداء مباشر على الاستقلال القضائي للمؤسسة". وفي 19 يونيو عام 2020، تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارا يدين بشدة وحشية الشرطة التي أودت بحياة جورج فلويد، الأمريكي المنحدر من أصل أفريقي. ونقلا عن تصريحات لمجموعات معنية بحقوق الإنسان، ذكرت وكالة "أيه.إف.بي" أن النسخة النهائية للقرار، وبسبب "الضغط القوي"، حذفت الدعوة إلى المزيد من التحقيقات وتخلت عن أي ذكر للعنصرية ووحشية الشرطة في الولايات المتحدة.
ومن خلال التنمر على دول أخرى، خففت الولايات المتحدة من لهجة القرار وهربت مجددا من تحقيقات دولية، وسارت في اتجاه مناوئ للأمريكيين المنحدرين من أصول أفريقية وضحايا عنف الشرطة بالبلاد، وفق ما ذكر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية.
العقوبات أحادية الجانب فاقمت الأزمة الإنسانية. في تلك اللحظة الحاسمة التي تتفشى فيها جائحة كوفيد-19 عالميا وتهدد حياة البشر وصحتهم ورفاهيتهم، يتعين على جميع الدول العمل معا للتصدي للجائحة والحفاظ على أمن الصحة العامة العالمي. إلا أنه، خلال الجائحة، لا تزال الحكومة الأمريكية تفرض عقوبات على دول مثل إيران وكوبا وفنزويلا وسوريا، وهو ما جعل من الصعب على الدول الخاضعة للعقوبات الحصول على الإمدادات الطبية اللازمة لمكافحة الجائحة في الوقت المناسب. وفي 24 مارس عام 2020، قالت ميشيل باشيليت، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، إنه في حال وجود جائحة عالمية، فإن العقوبات ستعيق العمل الطبي وتزيد المخاطر للجميع. وأوضحت أنه من أجل الحفاظ على أمن الصحة العامة العالمي وحماية حقوق ملايين الناس وأرواحهم في الدول الخاضعة للعقوبات، يتعين تخفيف العقوبات أو تعليقها في قطاعات معينة.
وحثت مجموعة مؤلفة من 24 دبلوماسيا بارزا الحكومة الأمريكية على تخفيف العقوبات الطبية والإنسانية على إيران، مشيرة إلى أن هذه الخطوة "قد تنقذ أرواح مئات الآلاف من الإيرانيين العاديين"، بحسب تقرير نشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة "ذا جارديان" يوم 6 أبريل عام 2020. وفي 30 أبريل عام 2020، ذكر خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن الحظر الأمريكي على كوبا والعقوبات على دول أخرى يقوضان بشدة التعاون الدولي لكبح الجائحة وعلاج المرضى وإنقاذ الأرواح. ودعا الخبراء الولايات المتحدة إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة ورفع حصارها الاقتصادي والمالي على كوبا وعدم وضع عراقيل تمنع كوبا من تمويل شراء الأدوية والمعدات الطبية والأغذية والسلع الأساسية الأخرى.
وفي 6 مايو عام 2020، صدر بيان مشترك من قبل مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان والمقرر الخاص المعني بحق الإنسان في الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي والمقرر الخاص المعني بالحق في التعليم، قال إن العقوبات الأمريكية على فنزويلا تلحق ضررا بالغا بالحقوق الإنسانية للشعب الفنزويلي. ودعا البيان الولايات المتحدة إلى الرفع الفوري للعقوبات التي فاقمت معاناة الشعب مع استشراء الجائحة في البلاد. وفي 29 ديسمبر عام 2020، دعت ألينا دوهان، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأثر السلبي للإجراءات القسرية الأحادية على التمتع بحقوق الإنسان، الولايات المتحدة إلى إلغاء العقوبات أحادية الجانب ضد سوريا، مشيرة إلى أن العقوبات ستفاقم الأزمة الإنسانية الأليمة بالفعل في سوريا، فضلا عن أنها تضرب بعرض الحائط حقوق الشعب السوري في العيش والصحة والتنمية.
طالبو اللجوء تعرضوا لمعاملة قاسية. ذكر تقرير نشرته شبكة "سي.إن.إن" في 30 سبتمبر عام 2020، أنه خلال العام المالي 2020، توفي 21 شخصا خلال احتجازهم لدى وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة، وهو ما يتجاوز ضعفي عدد الوفيات خلال العام المالي 2019، ويمثل كذلك أعلى حصيلة سنوية للوفيات منذ عام 2005. وأفاد تقرير نشرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" على موقعها الإلكتروني في 30 أكتوبر عام 2020، أن عددا كبيرا من الأطفال المهاجرين احتجزوا لفترات طويلة. وأظهرت البيانات أنه من بين 266 ألف طفل مهاجر احتجزتهم الحكومة، هناك أكثر من 25 ألف طفل تم احتجازهم لأكثر من 100 يوم، ونحو ألف طفل مهاجر قضوا أكثر من سنة في ملاجئ للاجئين، وبعضهم قضوا أكثر من خمس سنوات في الحجز.
وحسبما أوردت وسائل إعلام أمريكية عدة، فإن عشرات النساء من أمريكا اللاتينية والوسطى قدمن شكاوى للمحكمة الفيدرالية في جورجيا، ذكرن فيها أنهن خضعن لجراحات نسائية، شملت استئصال الرحم، دون موافقتهن، وهو ما تسبب لهن في ضرر بالغ بدنيا ونفسيا. وأشار تقرير آخر نشره الموقع الإلكتروني لصحيفة "ذا جارديان" يوم 22 أكتوبر عام 2020، إلى أن العديد من طالبي اللجوء تم تهديدهم وإجبارهم على توقيع أوامر الترحيل الخاصة بهم، بينما تعرض من رفضوا التوقيع إلى الخنق والضرب والرش برذاذ الفلفل وتم تصفيدهم لوضع بصمات أصابعهم قسرا على أوامر الإبعاد، التي بموجبها يتنازل طالبوا اللجوء عن حقوقهم في حضور المزيد من جلسات الاستماع ويقبلون الترحيل.
الترحيل القسري خلال جائحة كوفيد-19. وفقا لبيانات جمعتها وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك بالولايات المتحدة، فإنه حتى 14 يناير عام 2021، تأكدت إصابة 8848 محتجزا بعدوى كوفيد-19. واستنادا إلى تقرير نشره موقع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في 18 نوفمبر عام 2020، فإن الحكومة الأمريكية تجاهلت مخاطر الجائحة وطردت ما لا يقل عن 8800 طفل مهاجر غير شرعي لا يرافقه ذووه. وكشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، أن الأطفال المهاجرين الذين عادوا من الولايات المتحدة إلى المكسيك وأمريكا الوسطى عرضة للمخاطر والتمييز.
العفو عن مجرمين ذبحوا مواطنين من دول أخرى. في 30 ديسمبر عام 2020، أصدرت مجموعة العمل المعنية بمسألة استخدام المرتزقة والتابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بيانا يقول إن عفو الزعيم الأمريكي عن أربعة من متعاقدي شركة بلاك ووتر أدينوا بارتكاب جرائم حرب في العراق، انتهك التزامات الولايات المتحدة بموجب القانون الدولي. ودعا البيان جميع الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف إلى إدانة الإجراء الأمريكي.
وارتكب متعاقدو بلاك ووتر الأربعة مذبحة في ساحة النسور في بغداد عام 2007، والتي خلفت 14 قتيلا من المدنيين العزل وما لا يقل عن 17 جريحا، وفقا للبيان. وقال رئيس مجموعة العمل، إن العفو عن متعاقدي بلاك ووتر مثل إهانة للعدالة ولضحايا مذبحة ساحة النسور وعائلاتهم. وقالت مارتا هورتادو، المتحدثة باسم مكتب مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، إن العفو عن متعاقدي بلاك ووتر "يسهم في الإفلات من العقاب ومن شأنه تشجيع آخرين على ارتكاب مثل هذه الجرائم في المستقبل".