أولا. القصور في احتواء الجائحة يفضي إلى نتيجة مأساوية
زعمت الولايات المتحدة أنها الأوفر حظا من حيث الموارد الطبية وقدرات الرعاية الصحية، إلا أن استجابتها لجائحة كوفيد-19 كانت فوضوية، ما جعلها تتصدر دول العالم من حيث عدد حالات الإصابة بكوفيد-19 والوفيات ذات الصلة.
أدى قصور الاستجابة للجائحة إلى تداعيات وخيمة. وأظهر إحصاء لجامعة جونز هوبكينز أنه حتى نهاية فبراير عام 2021، سجلت الولايات المتحدة ما يزيد على 28 مليون حالة إصابة مؤكدة بكوفيد-19، بينما تجاوز عدد الوفيات ذات الصلة 500 ألف شخص. ومع تعداد سكاني يمثل أقل من 5 بالمئة من إجمالي سكان العالم، شكلت الولايات المتحدة أكثر من 25 بالمئة من إجمالي حالات الإصابة المؤكدة بكوفيد-19 وزهاء 20 بالمئة من الوفيات ذات الصلة. وفي 20 ديسمبر عام 2020، نشرت شبكة "سي.إن.إن" تقريرا يفيد بأن ولاية كاليفورنيا وحدها سجلت 1845000 حالة إصابة بكوفيد-19 و 22599 حالة وفاة، وهو ما يعكس نحو 4669 حالة إصابة مؤكدة و 57 حالة وفاة بين كل 100 ألف من سكان الولاية.
وحتى هذه الأرقام لا تعكس الصورة الكاملة للولاية، لأن العديد من الحالات، بما في ذلك حالات العدوى الخفيفة أو الحالات غير المصحوبة بأعراض، لم يتم تشخيصها. ولو أن السلطات الأمريكية اتخذت تدابير قائمة على العلم لاحتواء الجائحة، لكان بوسعها تفادي تلك التداعيات. ولكن نظرا لأنها لم تتخذ تلك التدابير، باتت الجائحة، كما وصفها وليام فويجي عالم الأوبئة والرئيس السابق للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، بمثابة "مذبحة" للولايات المتحدة.
تجاهل قادة البلاد تحذيرات الخبراء وقللوا من خطورة الجائحة. ووفقا للإطار الزمني لجائحة كوفيد-19 في الولايات المتحدة، والذي نشرته وسائل إعلام أمريكية بينها صحيفة "ذا نيويورك تايمز" و "ذا واشنطن بوست"، فإن إدارة ترامب تجاهلت مرارا الإنذارات بشأن خطورة الجائحة. وفي مطلع يناير عام 2020، كان أحد مكاتب مجلس الأمن القومي قد تلقى تقارير استخباراتية تتنبأ بتفشي الفيروس في الولايات المتحدة. وفي مذكرة بتاريخ 29 يناير، توقع المستشار التجاري للبيت الأبيض حينئذ، بيتر نافارو، بأن جائحة فيروس كورونا قد تؤدي إلى نحو نصف مليون حالة وفاة وخسائر اقتصادية بتريليونات الدولارات الأمريكية.
وخلال العديد من المناسبات، حذر كذلك عدد من مسؤولي الصحة، بينهم وزير الصحة والخدمات الإنسانية آنذاك إليكس عازار، وخبراء طبيون آخرون من احتمالية تفشي جائحة في الولايات المتحدة. ولم يلفت أي من التحذيرات السالفة انتباه الإدارة الأمريكية للجائحة الوشيكة. وعوضا عن ذلك، ركزت الإدارة الأمريكية على منع انتشار المعلومات وإصدار إشارات مضللة للرأي العام تزعم بأن "خطر الفيروس بالنسبة لأغلب الأمريكيين ضئيل للغاية"، وتُوهم بأن فيروس كورونا الجديد ليس أشد خطورة من الإنفلونزا العادية، وأن الفيروس "سيختفي بأعجوبة" عندما يصبح الطقس أكثر دفئا. ومن ثم، خسرت البلاد أسابيع حاسمة للوقاية من الجائحة ومكافحتها. وذكر مقال نشره الموقع الإلكتروني لصحيفة "ذا نيويورك تايمز" يوم 13 أبريل عام 2020، بأن الزعيم الأمريكي "بجنوحه لاتباع حدسه بدلا من البيانات يكلف (البلاد) وقتا وربما أرواحا".
أدى تقاعس الحكومة إلى تفشي الجائحة على نحو خارج عن السيطرة. وبعد ما بلغت حصيلة الوفيات جراء الجائحة 300 ألف، علق ديفيد هايز-باوتيستا، أستاذ الطب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، قائلا "كنا بغنى عن وفاة مثل هذا العدد الكبير من المواطنين. اخترنا كدولة أن نرفع قدمنا من على دواسة الوقود. اخترنا ذلك، وتلك هي المأساة". وقدر مصممو النماذج التجريبية للأمراض في جامعة كولومبيا بأنه لو كانت الولايات المتحدة قد بدأت إغلاق المدن والحد من الاتصال الاجتماعي في الأول من مارس، أي قبل أسبوعين من جنوح أغلب الناس إلى البقاء في منازلهم، لكان قد تم تفادي نحو 83 بالمئة من الوفيات ذات الصلة بالجائحة في البلاد. وذكرت مقالة افتتاحية نُشرت على الموقع الإلكتروني لمجلة "ذا لانسيت" الطبية في 17 مايو عام 2020، بأن الإدارة الأمريكية كانت مهووسة بلقاحات رصاصة سحرية أو أدوية جديدة أو أمل بأن الفيروس سوف يختفي تماما من تلقاء نفسه.
في الوقت نفسه، أشارت المقالة إلى أنه لا يمكن رؤية نهاية لحالة الطوارئ هذه إلا من خلال الاعتماد الثابت على مبادئ الصحة العامة الأساسية، مثل الاختبار والتتبع والعزل. وحتى مع تفشي الجائحة في رقعة شاسعة من الولايات المتحدة، تسرعت الإدارة الأمريكية في استئناف النشاط الاقتصادي جراء مخاوف سياسية. وبحسب ما ذكر موقع "Vox" الإخباري في يوم 11 أغسطس عام 2020، فإنه في إبريل ومايو من العام المنصرم، هرعت عدة ولايات لإعادة فتح أبوابها وتسببت في انتقال الفيروس إلى جنوبي البلاد وغربيها وإلى بقية أرجاء الولايات المتحدة في نهاية المطاف. وعلاوة على ذلك، ورغم توصية الخبراء للناس بارتداء الأقنعة في الأماكن العامة، إلا أن الزعيم الأمريكي والعديد من مسؤولي الدولة عارضوا بشدة إصدار أي قرار يُلزم بارتداء الأقنعة.
تسببت التدابير الفوضوية لمكافحة الجائحة والوقاية منها في حالة من الارتباك بين العامة. ووصفت مقالة نشرتها شبكة "سي.إن.إن" يوم 9 مايو عام 2020، الاستجابة الأمريكية للجائحة بأنها "غير متسقة على الدوام"، مشيرة إلى أنه ليست هناك مبادئ توجيهية وطنية وليست هناك جهود منظمة لإعادة فتح البلاد عدا التدابير التي اتخذتها الولايات. كما أشارت المقالة إلى أنه على صعيد مكافحة الجائحة والوقاية منها، فإن مسؤولي الصحة العامة يقولون شيئا ويقول حكام الولايات شيئا آخر بينما يقول رئيس البلاد شيئا ثالثا مختلفا تماما. وعلاوة على ذلك، فإنه بعد أن دعا الخبراء إلى قيادة فيدرالية، ترك الزعيم الأمريكي المدن والولايات لتحل بنفسها المشاكل الوطنية المتعلقة بالاختبارات وإمدادات المستشفيات. وعندما أطلقت الحكومة الفيدرالية خطة مرحلية لإعادة الفتح، دعا الزعيم الأمريكي الولايات لإعادة فتح أبوابها بشكل أسرع. وبعد أن أوصت المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها الناس بارتداء الأقنعة في الأماكن العامة، رفض الزعيم الأمريكي لأشهُر القيام بذلك في الأماكن العامة. وكما لو كانت الأفعال آنفة الذكر غير مثيرة للسخرية على نحو كاف، دعا الزعيم الأمريكي في مرحلة ما إلى حقن المرضى بمواد التطهير كعلاج.
تملص قادة البلاد من المسؤوليات بدافع الغطرسة. ورغم تواتر الأفكار السخيفة واحدة تلو الأخرى، رفض الزعيم الأمريكي الاعتراف بأي خطأ. وعوضا عن ذلك اخترع كل أنواع الأعذار للتستر على أخطائه مع التنصل من المسؤوليات. فعلى سبيل المثال، أصر على أن الولايات المتحدة تتصدر دول العالم في حالات الإصابة بكوفيد-19 لأنها تجري اختبارات أكثر من أي دولة أخرى في العالم. ولدى سؤاله عن مشاكل الاختبارات والوفيات المتزايدة، ادعى أنه "لا يتحمل المسؤولية على الإطلاق". ورغم كل ذلك، قال أنطوني فاوتشي مستشار البيت الأبيض ومدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، بأن الأرقام لا تكذب وأن الولايات المتحدة سجلت أسوأ تفش للوباء في العالم.
سقط المواطنون المسنون ضحايا لارتباك الحكومة في مواجهة الجائحة. المواطنون المسنون هم مجموعة أكثر عرضة لخطر الجائحة، لكنهم تم تهميشهم بشكل أكبر في خضم فوضى الوقاية من الجائحة ومكافحتها في الولايات المتحدة، حيث تصير حياتهم بلا قيمة وتداس كرامتهم. وفي 23 مارس و20 أبريل عام 2020، صرح دان باتريك، نائب حاكم ولاية تكساس، لشبكة "فوكس نيوز" بأنه يفضل الموت على رؤية تدابير الصحة العامة تضر بالاقتصاد الأمريكي وأن هناك أشياء أكثر أهمية من الحياة. ومن جهة أخرى كشف تقرير نشره موقع "ذا سان دييجو يونيون-تريبيون" يوم 18 أغسطس 2020 أن المقيمين في مرافق الرعاية طويلة الأمد يمثلون أقل من واحد بالمئة من سكان الولايات المتحدة لكنهم يشكلون أكثر من 40 بالمئة من وفيات كوفيد-19.
وإزاء تلك الحقائق، جاهر مقال نشره موقع صحيفة "ذا واشنطن بوست" في يوم 9 مايو 2020، بوصف الجهود الأمريكية لمكافحة الجائحة بأنها "قتل تجيزه الدولة" حيث يتم عمدا التضحية "بكبار السن وعمال المصانع والأمريكيين المنحدرين من أصول أفريقية ولاتينية".
واجه الفقراء تهديدا أكبر للإصابة بالعدوى. ووجد باحثون أن مؤشر جيني، وهو مقياس اقتصادي يصنف عدم المساواة في الدخل من صفر (انعدام المساواة مطلقا) إلى واحد (المساواة التامة)، كان مؤشرا قويا على وفيات كوفيد-19. وضمت مدينة نيويورك، التي سجلت أحد أكبر أرقام مؤشر جيني عند مستوى بلغ 0.52، ضمت كذلك أكبر عدد من الوفيات في البلاد بهامش فارق. وأفاد موقع صحيفة "ذا جارديان" يوم 21 مارس عام 2020، أنه في أعقاب الجائحة، صار الأثرياء والنافذون أول من يتلقون اختبارات فيروس كورونا، بينما العمال محدودو الدخل، والذين يفتقر أغلبهم إلى إجازة مرضية مدفوعة الأجر ولا يستطيعون العمل من المنزل، يعرضون أنفسهم لخطر أكبر للإصابة بالفيروس من أجل كسب لقمة العيش.
ونقل تقرير نشره موقع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" يوم 8 مايو عام 2020، عن مسؤولي الصحة العامة قولهم إن سكان المجتمعات محدودة الدخل في مقاطعة لوس أنجلوس أكثر عرضة بواقع ثلاثة أضعاف للوفاة بكوفيد-19 عن نظرائهم في الأحياء الأكثر ثراء. وكشف مسح لمؤسسة "جالوب" أن واحدا من بين كل سبعة بالغين أمريكيين قالوا إنهم إذا ظهرت عليهم أو على أفراد أسرتهم أعراض ذات صلة بكوفيد-19، فإنهم قد يتخلون عن العلاج الطبي خشية عدم تمكنهم من تحمل تكاليفه. كما أشار فيليب ألستون، مقرر الأمم المتحدة الخاص لشؤون الفقر المدقع وحقوق الإنسان، إلى أن الفقراء في الولايات المتحدة هم الأشد تضررا من جائحة كوفيد-19. وأوضح أن محدودي الدخل والفقراء يواجهون مخاطر أكبر بكثير للإصابة بفيروس كورونا نظرا للإهمال والتمييز المزمنين، فضلا عن تعرضهم للخذلان من قبل الاستجابة الفيدرالية المشوشة التي تقودها الشركات.
المعاقون والمشردون في حالة يرثى لها. وكشفت دراسة نشرتها منظمة "فير هيلث" غير الربحية في نوفمبر عام 2020، أن الأشخاص ذوي الإعاقات الذهنية والتنموية أكثر عرضة بثلاثة أضعاف للوفاة بكوفيد-19 مقارنة مع عامة السكان. وفي 14 مايو عام 2020 نشر موقع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أنه مع الصدمة التي يوجهها فيروس كورونا للاقتصاد والتي تعيق الشركات من جميع المستويات وتتسبب في فقد ملايين الأمريكيين لوظائفهم، فإن المشردين في الولايات المتحدة قد يزيد عددهم بنسبة 45 بالمئة خلال عام. وهناك كثير من المشردين الأمريكيين من كبار السن والمعاقين. ونظرا لصحتهم البدنية الضعيفة بالأساس وظروفهم المعيشية والصحية السيئة، فإنهم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس. وخلال الجائحة، تم إجلاء المشردين ودفعهم للانتقال إلى ملاجئ مؤقتة.
وأفاد موقع وكالة "رويترز" في 23 أبريل عام 2020 أن اكتظاظ الملاجئ في أنحاء الولايات المتحدة جعل من المستحيل بالنسبة للمشردين الذين يعيشون هناك الحفاظ على التباعد الاجتماعي، وهو ما سهل انتشار الفيروس. وأورد موقع صحيفة "ذا نيويورك تايمز" يوم 13 أبريل عام 2020 أنه في مدينة نيويورك استفحلت الأزمة في ملاجئ المشردين، حيث ينام 17 ألف رجل وامرأة في ملاجئ جماعية أو شبه جماعية للبالغين غير المتزوجين، حيث الأَسِرَّة قريبة من بعضها لدرجة تجعل النائمين عليها يمكن أن يمسكوا بأيدي بعضهم. وكشف موقع "ذا بوسطن جلوب" في 4 مايو عام 2020 أن نحو ثلث المشردين الذين خضعوا لاختبارات جاءت نتائجهم إيجابية لفيروس كورونا الجديد.
شكل تفشي الفيروس في السجون تهديدا لحياة النزلاء. وأفادت شبكة "أيه.بي.سي نيوز" في 19 ديسمبر عام 2020 أن ما لا يقل عن 275 ألف سجين أصيبوا بفيروس كورونا، وأكثر من 1700 قضوا جراء الفيروس، وأن كل نظام للسجن في البلاد شهد معدلات إصابة أعلى بكثير مقارنة مع التجمعات السكنية المحيطة به. وأشارت بيانات جمعتها كل من وكالة "ذي أسوشييتد برس" و مؤسسة "ذا مارشال بروجيكت"، وهي مؤسسة إخبارية غير ربحية تغطي نظام العدالة الجنائية، أن واحدا من كل خمسة سجناء في مرافق يديرها المكتب الفيدرالي للسجون أصيب بفيروس كورونا. كما كشفتا أن 24 نظاما للسجون على مستوى الولايات لديها حتى معدلات أعلى للإصابة بفيروس كورونا. وأصيب نصف السجناء في ولاية كانساس بكوفيد-19، وهو ما يعادل ثمانية أضعاف معدل الإصابة بين جميع سكان الولاية. وفي ولاية أركانساس هناك أربعة من بين كل سبعة سجناء، أصيبوا بالفيروس.
هيمن شبح الجائحة الخارجة عن نطاق السيطرة على عقول الأمريكيين العاديين. وأثر رد فعل إدارة ترامب إزاء جائحة كوفيد-19 سلبا على الأمريكيين أكثر من الفيروس ذاته، وهو ما ترك الناس في حالة من التوتر والعزلة. وفي دراسة نشرتها المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها في 14 أغسطس عام 2020، فإنه نظرا لأوامر البقاء في المنزل، فإن 40.9 بالمئة من البالغين قالوا إنهم تعرضوا لحالة صحية عقلية أو سلوكية سلبية واحدة على الأقل، بينما ذكر 30.9 بالمئة أنهم شعروا بالتوتر أو الاكتئاب، ولا تشكل هذه الأرقام سوى قمة جبل جليدي. كما أظهرت ذات الدراسة للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن 13 بالمئة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم من قبل المراكز خلال ذات الفترة قالوا إنهم بدأوا أو زادوا من تعاطيهم للمواد المخدرة وأن 11 بالمئة فكروا جديا في الانتحار. وأظهرت دراسة منفصلة صدرت في شهر يونيو أن الاتصالات بالخطوط الساخنة للانتحار ارتفعت بنسبة 47 بالمئة في أنحاء البلاد خلال جائحة كوفيد-19، مع تسجيل بعض خطوط الأزمات زيادة في الاتصالات بلغت نسبتها 300 بالمئة.