بقلم: محمد الأمين النحاس
أصدرت الحكومة الصينية 13 يناير 2016 وثيقة رسمية حول سياسة الصين تجاه الدول العربية، الوثيقة تجيء كخارطة طريق ترسي الركائز الرئيسية التي تنظم العلاقات الثنائية بين الصين والدول العربية في المستقبل بمستوياته الثلاثة القريب والمتوسط والبعيد. قبل الدخول في التناول التحليلي لهذه الوثيقة، لابد لنا من الوقوف على الظروف والأجواء العامة السائدة في البيئة السياسية لدى الجانبين التي أتت في ظلها هذه الوثيقة، وذلك لتوجيه التحليل.
الظروف والأجواء السياسية العامة
مجموعة الدول العربية تتألف من 22 دولة، النطاق الجغرافي الذي توجد فيه هذه الدول وهو منطقة الشرق الأوسط، يعتبر من أكثر مناطق العالم ديناميكية منذ القدم وإلى يومنا هذا. ويعتبر منطقة إشعاع ثقافي وتراث انساني ضارب في القدم، بالإضافة إلى ذلك يتمتع بثروات طبيعية هائلة وموقع جغرافي استراتيجي تتصارع القوى الكبرى للهيمنة عليه من أجل تقوية مركزها الدولي. كما أن هذه المنطقة تقوم على معادلات دقيقة فيما يتعلق بموازين القوى بكافة أشكالها، وهي في حالة تغير مستمر لأنها تعتمد على مجموعة من العناصر المتغيرة. ولذلك فإن منطقة الشرق الأوسط كانت ولا تزال مسرحا يعكس حالة التنافس بين القوى الاقليمية حول زعامة المنطقة من جهة، وبنفس القدر مسرحا يعكس الاستقطابات والصراعات الدولية من جهة أخرى.
وقد شهد العالم العربي أواخر عام 2010 ومطلع 2011، نوع من الحراك السياسي اصطلح على تسميته إعلاميا بالربيع العربي، وقد انطلق هذا الحراك من تونس ثم انتقل إلى عدد من الدول العربية الأخرى، وتتمثل أهم نتائج هذا الحراك في الإطاحة بأربعة أنظمة عربية. وأسباب هذا الحراك ترجع بشكل أساسي لعدد من العوامل السياسية والاجتماعية مقرونة بتراجع الأحوال المعيشية، ولا تزال تنعكس نتائج هذا الحراك على العديد من الدول.
وتتفاقم الأوضاع وتتعقد الأمور أكثر في ظل بروز المزيد من الحركات الجهادية وفي مقدمتها تنظيم داعش، وهو تنظيم مسلَّح ينشط بشكل رئيسي في العراق وسوريا. ويمكن القول إنه يمثل امتدادا للسلفية الجهادية التي تحمل أفكارا فيها الكثير من التطرف، وتتجسد أفكار هذا التيار في عدد من الحركات التي برزت في المنطقة في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
كما أن منطقة الشرق الأوسط شهدت في الآونة الأخيرة توترات دبلوماسية بين ايران والسعودية، الأخيرة تساندها في موقفها عدد من الدول العربية الأخرى. وقد أشارت السعودية إلى أنها قطعت علاقاتها مع ايران احتجاجا على تدخل إيران في شؤونها الداخلية. ومن المفيد أن نعرف أن التداعيات الأخيرة بين الجانبين، تأتي في إطار الخلافات المذهبية بينهما، والتي أصبحت دولة اليمن أحد الساحات التي تعكس هذه الخلافات وتتجلى بعض مظاهرها الآن في الحرب المسماة "عاصفة الحزم" ضد الحوثيين الذين تساندهم ايران. وهكذا فإن عاصفة الحزم وقطع العلاقات الدبلوماسية، تعبير مباشر لحالة التوتر السائدة والناتجة عن التنافس الحاد بين الطرفين.
أما بالنسبة للظروف والأجواء السياسية العامة بالنسبة للجانب الصيني، فيمكننا القول إن الصين تمضي بثبات في اتجاه تحقيق سياسة الانفتاح على العالم كأحد وسائل سياسة الإصلاح الاقتصادي التي تبتها قبل ثلاثة عقود، وما ارتقائها لمرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلا دليل على نجاح هذه السياسة. ولا تزال الصين تحافظ على نسبة نموي سنوي حتى في ظل تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي الذي تأثر بالأزمة المالية العالمية، كما أثبت الاقتصاد الصيني القدرة على امتصاص الصدمات الطارئة، حيث أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين هبط لأدنى مستوى له خلال ست سنوات ليصل إلى 6.9 % في الربع الثالث من العام الجاري بعد ان انخفض بشكل طفيف عن 7% في الربعين الاول والثاني من نفس العام، حسبما أعلن المكتب الوطني للإحصاءات. لكن الاقتصاد الصيني تمكن من العودة للتعافي بفضل قدرته على الحفاظ على سرعة متوسطة إلى سرعة عالية للنمو الاقتصادي معتمدا في ذلك على الإمكانات الضخمة لمعدلات الاستهلاك المحلي.
الصين بالإضافة كونها من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، تسهم اليوم بشكل فاعل كدولة ذات مسؤولية دولية في تطوير الاقتصاد العالمي وبنياته الهيكلية. حيث ساهمت بشكل فاعل في تأسيس هياكل جديدة لترقية الحوكمة الاقتصادية العالمية مثل الابيك (APEC)، ورابطة دول جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم آسيان (ASEAN)، وبريكس (BRICS)، ومنظمة شانغهاي للتعاون، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، فضلاُ عن أنها تلعب دورا مهما في مجموعة العشرين (G20) وغير ذلك من المؤسسات الدولية.
الوثيقة تعد الأولى من نوعها التي تصدرها الدبلوماسية الصينية منذ انطلاق علاقاتها مع الدول العربية بشكل رسمي قبل 60 عاما. ومن الملاحظ أن صدور الوثيقة أتى في بداية العام 2016، قد جاء وكان العام الفائت قد مثل قمة الانفتاح الصيني على العالم، حيث زار الرئيس شي في أواخر العام 2015 عددا من الدول ذات الوزن في مسرح الاقتصاد والسياسة الدولية، مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها من الدول الأخرى.
في هذا السياق، يمكن أن نعتبر الزيارات الأخيرة للرئيس شي أنها محاولة لتحديد وضع بوصلة الاقتصاد الصيني واستكشاف الاتجاهات لتطوير تعاونها مع القوى العالمية لدفع اقتصادها وانعاش الاقتصاد العالمي. عموما زيارات الرئيس الصيني الأخيرة بما فيها جولته في الشرق الأوسط، يمكن أن تعطي مؤشرات دالة حول استراتيجياتها الاقتصادية القادمة. ومن المفيد أن نشير إلى أن صدور هذه الوثيقة أتي قبل ستة أيام فقط من جولة الرئيس شي إلى منطقة الشرق الأوسط ،حيث زار السعودية ومصر وايران.