3 - التلاعب بالديمقراطية الزائفة يسحق الحقوق السياسية
تؤدي التبرعات السياسية إلى تغير المصالح بعد الانتخابات، ويزيد الاستقطاب السياسي من العداء والانقسام في المجتمع الأمريكي، وأصبحت التشريعات وتقسيمات الدوائر الانتخابية التي تقيد أهلية التصويت أدوات للحزبين لقمع الرأي العام. وبات عمل النظام السياسي الأمريكي يتحرك بعيدا عن الإرادة العامة والمطالب الاجتماعية، وجُرد غالبية الجمهور بشكل أساسي من حق في المشاركة في السياسة، والثقة الدولية في النظام الديمقراطي الأمريكي آخذة في التراجع.
لقد انحدرت الديمقراطية على الطريقة الأمريكية إلى لعبة تغير المصالح.أصبحت سياسة المال متفشية بشكل متزايد في الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل السياسيين أكثر إهمالا لمصالح الناس ومطالبهم.
وقد أشار نعوم تشومسكي، المعلق السياسي والناشط الاجتماعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى أن هناك ترابطا إيجابيا بين ثروة الأمريكيين وتأثيرهم على صنع السياسات، وبالنسبة لـ70 بالمائة الأدنى على مقياس الثروة الدخلية، ليس لهذه الشريحة أي تأثير على السياسة على الإطلاق، وهي محرومة من الحقوق فعليا. وأشار راي لا راجا، الأستاذ في جامعة ماساتشوستس في أمهرست، في مقال لصحيفة ((ذا أتلانتيك)) إلى أن النظام الحالي في أمريكا ديمقراطي فقط من حيث الشكل وليس من حيث الجوهر، حيث أن عملية الترشيح عرضة للتلاعب من قبل البلوقراطيين (الأثرياء النافذين) والمشاهير والشخصيات الإعلامية والناشطين، في حين أن العديد من الناخبين الأساسيين في الانتخابات الرئاسية يدعمون عن طريق الخطأ مرشحين لا يعكسون وجهات نظرهم.
ووفقا لصحيفة ((الغارديان)) في 7 يناير 2021، أنفق المرشحون 14 مليار دولار أمريكي على الإعلان فقط في دورة انتخابات الرئيس الأمريكي لعام 2020. وذكرت قناة أخبار المستهلك والأعمال الأمريكية ((سي إن بي سي)) في 15 أبريل 2021 أن المديرين التنفيذيين في وول ستريت وموظفيهم وجمعياتهم التجارية استثمروا ما لا يقل عن 2.9 مليار دولار أمريكي في مبادرات سياسية خلال دورة انتخابات عام 2020. وقال منفذ ((بوليتيكو)) الإعلامي الأمريكي في 17 نوفمبر 2021 إن مجموعة مالية سرية "خصصت" 410 ملايين دولار أمريكي في عام 2020 للحزب الديمقراطي، مما ساعد في جهود الأخير لاستعادة السيطرة على مجلس الشيوخ.
في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، قدمت شركات الأدوية الأمريكية تبرعات سياسية ضخمة لكلا الحزبين، وبعد تولي الإدارة الديمقراطية مهام السلطة، استثمرت مبلغا هائلا من المال في الشركات المعنية، حيث حققت "موديرنا" وحدها أرباحا بلغت حوالي مليار دولار أمريكي. ثم حولت الحكومة الفيدرالية المصالح مباشرة إلى شركات الأدوية من خلال شراء كميات كبيرة من لقاحات كوفيد-19، الأمر الذي أدى إلى اكتناز وإهدار كميات هائلة من اللقاحات في الولايات المتحدة. أعطت الحكومة الأمريكية شركات الأدوية مطلق الحرية في تسعير لقاحات كوفيد-19، مما أدى إلى زيادات مستمرة في أسعار اللقاحات. وذكرت صحيفة ((فاينانشال تايمز)) أن شركة "فايزر" رفعت سعر لقاحها المضاد لكوفيد-19 للاتحاد الأوروبي من 15.5 يورو إلى 19.5 يورو، وارتفع سعر جرعة لقاح موديرنا إلى 25.5 يورو من 19 يورو. بيد أن تكلفة إنتاج جرعة لقاح موديرنا تقدر بأقل من 3 دولارات أمريكية.
يؤدي الاستقطاب السياسي إلى انقسام متزايد في المجتمع الأمريكي.وقد زادت الفوضى الانتخابية في الولايات المتحدة من حدة الاستقطاب السياسي ولا تزال تمزق المجتمع. بعد ظهر يوم 6 يناير 2021، وبدافع من تحريض وتلاعب السياسيين المتطرفين، تدفق عشرات الآلاف من الأمريكيين الذين رفضوا نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2020 إلى العاصمة واشنطن، وشق عدد كبير من المتظاهرين طريقهم إلى مبنى الكابيتول واشتبكوا مع الشرطة، مما أسفر عن مصرع خمسة أشخاص وإصابة أكثر من 140 آخرين. وقوطعت العملية الدستورية لتثبيت نتيجة الانتخابات الرئاسية. وأشار مقال نشرته مؤسسة "بروكينغز" على الإنترنت في مايو 2021 إلى أنه بالرغم من أن جميع الولايات الـ50 صادقت على نتائج انتخابات عام 2020، إلا أن 77 في المائة من الناخبين الجمهوريين ما زالوا يشككون في شرعية الرئيس المنتخب بسبب مزاعم بتزوير الانتخابات، وهي ظاهرة تحدث لأول مرة منذ قرابة 100 عام.
لم تقلل تغييرات الحكومة من الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة أو تزيله. لقد أصبح الشعب الأمريكي أكثر تنافرا مع بعضه البعض بشأن قضايا مثل الوقاية من الوباء ومكافحته والعلاقات العرقية وحقوق الإجهاض والسيطرة على الأسلحة النارية في حين أصبح الصراع السياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين حول بناء البنية التحتية ومشاريع قوانين الرعاية الاجتماعية وسقف الدين الحكومي وغيرها من التشريعات المتعلقة بالاقتصاد وسبل عيش الناس أكثر حدة، وبات الكونغرس عاجزا تقريبا. بل أن زعيما جمهوريا ذهب إلى حد إلقاء خطاب قياسي دام 8 ساعات ونصف الساعة في الكونغرس لمنع وتأخير التصويت على مشروع قانون اقترحه الديمقراطيون.
وذكر مركز بيو للأبحاث في 13 أكتوبر 2021 أن الولايات المتحدة تعتبر الدولة الأكثر استقطابا سياسيا في استطلاع شمل 17 اقتصادا متقدما، حيث قال 90 في المائة من المشاركين الأمريكيين إن هناك صراعات قوية على الأقل بين أولئك الذين يدعمون الحزبين المختلفين، ويعتقد نحو ستة من كل عشرة مواطنين أنهم لم يعودوا يختلفون ببساطة بشأن السياسات، وإنما أيضا حول الحقائق الأساسية.
فالمواجهات بين الحزبين السياسيين تقيد حق الناخبين في التصويت وتضر به.ومن أجل الفوز في الانتخابات، استخدم الجمهوريون والديمقراطيون التشريعات وتقسيمات الدوائر الانتخابية، فضلا عن تكتيكات أخرى لمنع الناخبين الذين لا يفضلونهم بشكل عدواني من الإدلاء بأصواتهم. في عام 2021، طرحت 49 ولاية في الولايات المتحدة أكثر من 420 مشروع قانون من شأنها تقييد التصويت.
وقد خفضت مشاريع القوانين هذه مقدار الوقت الذي يملكه الناخبون لطلب أو إرسال بريد للاقتراع، أو قيدت توافر أماكن التسليم، أو فرضت متطلبات توقيع أكثر صرامة للتصويت عبر البريد، أو سنت متطلبات جديدة وأكثر صرامة لبطاقات هوية الناخبين، مما جعل التصويت بالبريد والتصويت المبكر أكثر صعوبة ووضع حواجز أمام كبار السن والمعوقين والأقليات وغيرها من المجموعات لممارسة حقوقهم في التصويت. وذكرت شبكة ((إن بي سي نيوز)) الإخبارية في 8 مارس 2021 أن ولاية جورجيا تضغط لإقرار عشرات مشاريع قوانين التصويت التقييدية التي تستهدف الناخبين الأمريكيين الأفارقة. وقد جادل خبراء حقوق التصويت وجماعات الحقوق المدنية بأن "هذا التحرك يرقى إلى اعتداء وطني من شأنه أن يدفع الناخبين الملونين إلى الخروج من العملية الانتخابية".
وقد أصبحت تقسيمات الدوائر الانتخابية أداة لقمع النفوذ السياسي للناخبين من الأقليات. ويستغل الحزبان الديمقراطي والجمهوري نفوذهما السياسي في كل ولاية لزيادة فرص الفوز من خلال إعادة رسم دوائر الكونغرس، وغالبا على حساب حقوق الأقليات.
وذكرت شبكة ((سي إن بي سي)) في 13 أغسطس 2021 أن ممارسة إعادة رسم دوائر الكونغرس غالبا ما تستهدف الناخبين الملونين وتقسيم الدوائر الانتخابية في ميشيغان وأوهايو وبنسلفانيا وحدها أعطى الجمهوريين 16 إلى 17 مقعدا آخر في الكونغرس. وذكرت صحيفة ((شيكاغو تريبيون)) اليومية في 3 سبتمبر 2021 أن إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية في إلينوي تهدف إلى إبقاء الديمقراطيين مسيطرين على الهيئة التشريعية للولاية لعقد من الزمان على الأقل. وذكر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية في 30 نوفمبر من عام 2021 أن إعادة رسم دوائر الكونغرس لولاية أوهايو تمنح الجمهوريين ميزة حزبية غير دستورية، حيث يمكن للجمهوريين توقع الفوز بنسبة 67 إلى 80 في المائة من مقاعد الكونغرس - على الرغم من أنه من المرجح فقط أن يحصلوا على حوالي 55 في المائة من الأصوات.
ذكرت صحيفة ((لوس أنجلوس تايمز)) في 8 ديسمبر 2021 أنه على الرغم من أن تكساس شهدت زيادة كبيرة في عدد الملونين، إلا أن خطتها الجديدة لإعادة تقسيم الدوائر الانتخابية قللت عمدا من قوة الناخبين ذوي الأصول اللاتينية والإفريقية. ويشكل سكان تكساس من ذوي الأصل اللاتيني قرابة 40 في المائة من السكان، ولكن سبع دوائر فقط من أصل 38 دائرة انتخابية في الكونغرس الغلبة فيها للسكان ذوي الأصل اللاتيني. وتعد تكساس موطنا لأكبر عدد من السكان من ذوي البشرة السوداء في البلاد، غير أنه ولا واحدة من دوائر الكونغرس الـ38 في الولاية الغلبة فيها لذوي البشرة السوداء. وفي استطلاع حول الرأي العام الأمريكي حول عدالة دوائر الكونغرس، أعرب 16 في المائة فقط من الذين شملهم الاستطلاع عن اعتقادهم بأنه سيتم إعادة رسم دوائر الكونغرس بشكل عادل في ولاياتهم.
تستمر ثقة المجتمع الدولي في الديمقراطية الأمريكية في التراجع.وأظهر استطلاع وطني للرأي أجراه معهد السياسة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد لمجموعة تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما في أمريكا صدر في أول ديسمبر 2021 أن 7 في المائة فقط من المستطلعة آراؤهم ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها "ديمقراطية صحية"، و52 في المائة يعتقدون أن الديمقراطية الأمريكية إما "مضطربة" أو "فاشلة". وذكرت بيانات صادرة عن مركز بيو للأبحاث في مايو 2021 أن ثقة الرأي العام الأمريكي في الحكومة اقتربت من أدنى مستوى تاريخي لها منذ عام 1958، حيث قال 2 في المائة فقط من الأمريكيين إنهم يمكنهم الوثوق في أن الحكومة الأمريكية ستفعل ما هو صحيح "دائما تقريبا"، فيما قال 22 في المائة فقط إنهم يمكنهم الوثوق في أن الحكومة ستفعل ما هو صحيح "معظم الوقت".
في مقال رأي نُشر في 12 يونيو 2021، قالت صحيفة ((واشنطن بوست)) إن العالم في السنوات القليلة الماضية شعر بالرعب من الفوضى والخلل الوظيفي والجنون لدى الديمقراطية الأمريكية، التي اعتبرها حلفاء الولايات المتحدة محطمة ومنتهية. وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إن ما حدث في مبنى الكابيتول "مشين". وقال الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير إن أعمال الشغب في مبنى الكابيتول كانت "نتيجة أكاذيب والمزيد من الأكاذيب، والانقسام وازدراء الديمقراطية، والكراهية والتحريض - حتى من أعلى مستوى". وقد أظهر بحث أن 14 في المائة فقط من الألمان وأقل من 10 في المائة من المواطنين في نيوزيلندا يرون في الديمقراطية الأمريكية نموذجا مرغوبا فيه للدول الأخرى.
على الرغم من حقيقة أن الديمقراطية الأمريكية ثبت أنها فاشلة تماما وأن صورتها العالمية قد تضررت بشدة، عقدت الحكومة الأمريكية ما يسمى بـ"قمة القادة من أجل الديمقراطية" بشكل لافت، في تسييس للديمقراطية واستخدامها كأداة لتشكيل تحالفات وإجبار الدول الأخرى على الانحياز، في محاولة لتقسيم العالم. إن ما يسمى "قمة القادة من أجل الديمقراطية" هي في جوهرها قمة تقوض الديمقراطية العالمية، وقد قوبلت بانتقاد وإدانة واسعي النطاق من جانب المجتمع الدولي.
وقال عالم السياسة الفرنسي دومينيك مويسي إنه من الصعب دائما الوعظ بما يفعله المرء بشكل سيء. كما علقت صحيفة ((يو إس إيه توداي)) وصحيفة ((نيويورك تايمز)) وغيرهما من وسائل الإعلام الأمريكية بأن الديمقراطية الأمريكية "تتداعى" ويجب على الولايات المتحدة أولا معالجة إخفاقاتها، وتساءل المنتقدون "عما إذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تكون مدافعا نشطا عن الديمقراطية في خضم ما تعانيه من مشاكل في الداخل".