بكين 19 نوفمبر 2019 (شينخوا) "كانت أفضل الأوقات، كانت أسوأ الأوقات"، هكذا أعلن الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز في عام 1859، في إشارة إلى المخاوف والآمال بعد الثورة الصناعية.
وبعد مرور قرن ونصف القرن على ذلك، لا يزال هناك عالم تسوده التناقضات، المنبثقة عن جولة أخرى من الثورات الصناعية والتكنولوجية، هكذا عبر الرئيس الصيني شي جين بينغ عند حضوره ولأول مرة المنتدى الاقتصادي العالمي في أوائل عام 2017.
فقد دفعت التحديات العالمية، بدءا من الصراعات الإقليمية والإرهاب وصولا إلى اتساع الفوارق في الدخل وتغير المناخ، البشرية إلى مفترق طرق من الحلول المتضاربة: العولمة أم مناهضة العولمة، التعددية أم الأحادية، التكامل أم العزلة.
وفي الوقت الذي تراجع فيه البعض إلى الخيار الأسهل المتمثل في الأحادية والانعزالية، أخذ الرئيس الصيني يقود دفاعا حماسيا عن التعددية لجعل العولمة الاقتصادية أكثر نشاطا وشمولا واستدامة.
كما ظهر هذا الالتزام في الجولة الخارجية، التي قام بها شي مؤخرا وتوجه خلالها إلى اليونان في زيارة دولة وإلى البرازيل لحضور القمة الـ11 لمجموعة بريكس في الأسبوع الماضي والتي شهدت دعوته إلى بذل جهود عالمية للتمسك بالتعددية وتوجيه العالم نحو الرؤية المتمثلة في "مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية".
-- مفترق طرق تاريخي
قال شي أمام القمة التي عقدت مؤخرا لمجموعة بريكس، وهي كتلة من الأسواق الناشئة تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، "إننا نجتمع في وقت تحدث فيه تطورات حاسمة في الاقتصاد العالمي والمشهد الدولي".
ففي الوقت الذي اجتمع فيه قادة خمسة من أكبر الاقتصادات الناشئة في مدينة برازيليا، ألقت دوافع قلق بظلالها على العالم: فقد كان للتوترات التجارية وأوجه عدم اليقين بشأن السياسات أثر سلبي على الاقتصاد العالمي، وتجاهل بعض الساسة الحقيقة المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة في العالم، ومازالت بريطانيا تمر بإجراءات طلاقها من الاتحاد الأوروبي، وسوريا غارقة في حرب قائمة منذ ثمان سنوات.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدق فيها الرئيس الصيني ناقوس الخطر بشأن الوضع الحرج الذي تمر به البشرية.
"ماذا أصاب العالم؟"، هكذا سأل شي في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع دافوس السويسري للتزلج في يناير 2017، وهو سؤال هام يفكر فيه العالم مليا.
وجاء جواب شي بأن العالم يمر بتغيرات عميقة لم يشهد لها مثيل منذ قرن من الزمان.
وأوضح ملاحظته هذه في اجتماع قادة اقتصادات منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ (أبيك) الذي عقد في نوفمبر 2018 في بابوا نيو غينيا.
وفيما تمضي العولمة الاقتصادية قدما، تلقي الحمائية والأحادية بظلالهما على النمو العالمي؛ وتقف ثورة جديدة في العلوم والتكنولوجيا والصناعة في طور التكوين، ولكن القوى المحركة القديمة لم تحل محلها بعد قوى محركة جديدة؛ ويمر المشهد الدولي بتغيرات عميقة، لكن الخلل القائم في التنمية لم تتم معالجته بعد؛ ويكتسب إصلاح نظام الحوكمة العالمية زخما، لكن تحسين كفاءته لا يزال يشكل تحديا كبيرا.
ولتسليط الضوء على الوضع الحرج الذي تواجهه البشرية، لجأ شي مرارا إلى استخدام التشبيه المتمثل في كلمة مفترق طرق.
وقال "لقد وصلت البشرية مرة أخرى إلى مفترق طرق".
أي اتجاه نختار؟ التعاون أم المواجهة؟ فتح الباب أم غلقه؟ التقدم القائم على الفوز المشترك أم لعبة المحصلة الصفرية؟
ووسط عدد لا يحصى من التغيرات هناك شيء واحد مؤكد: وهو أنه من المستحيل تغيير اتجاه العولمة وبالمثل من المستحيل توجيه المياه في المحيط مرة أخرى إلى بحيرات وجداول معزولة. في عالم اليوم، لا يمكن لأي بلد أن يركن إلى الانعزالية ويقوم وحده بالاعتناء جيدا بنفسه.
وقد ذكر شي في اجتماع الأبيك الذي عقد في بابوا نيو غينيا، على متن سفينة راسية في بورت مورسبي، "نحن جميعا بالفعل رفقاء درب في قارب واحد".
-- قارب واحد
من أجل مساعدة العالم في الإبحار قدما متغلبا على الرياح والأمواج معا، طرح شي مبادرة الحزام والطريق ورؤية بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية، وهما مكونان هامان لما يُعرف بـ"دبلوماسية شي".
وتعبيرا عما تحظى به المبادرة والرؤية من قبول عالمي متزايد، وقعت أكثر من 160 دولة ومنظمة دولية وثائق تعاون بشأن مبادرة الحزام والطريق مع الصين، ويجرى دمج رؤية شي في المزيد والمزيد من قرارات الأمم المتحدة.
وقال شي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على هامش قمة مجموعة العشرين التي عقدت في بوينس آيرس في نوفمبر 2018 "لقد تقدمت بمقترحي بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية ومبادرة الحزام والطريق فيما كنت أفكر في كيف يمكن لبلدان العالم تحقيق تشاور مشترك ومنافع متبادلة وتناغم في التنوع وتعاون من أجل تحقيق نتائج تقوم على الفوز المشترك في مواجهة المصالح والشواغل المتباينة".
وقال شي لا يوجد خيار أفضل لدول العالم من تعزيز التعاون متعدد الأطراف في مواجهة التحديات العالمية الواحد تلو الآخر.
وبهذا المنطق من التفكير، يرى شي أن تنمية بلاده ليست بمعزل عن بقية العالم. وقال "الصين ستبلي بلاء حسنا عندما يبلي العالم بلاء حسنا".
وفي هذا الصدد، لاحظ الخبراء أن بكين تنتهج سياسة خارجية أكثر مشاركة من أي وقت مضي، وتسعى جاهدة إلى بيئة دولية مستقرة لتمكين تنميتها وكذلك الاعتراف بمسؤولياتها العالمية بينما تتحرك نحو مركز الصدارة.
وقال روبرت كون، الخبير الأمريكي البارز حول الصين، "إذا كان لي أن اختار كلمة واحدة تجسد السياسة الخارجية في عهد الرئيس شي، سوف أختار كلمة "تشاركية" أو"استباقية".
وأضاف كون، الذي يتابع باهتمام كل جولة خارجية للرئيس الصيني، أن دبلوماسية المشاركة الصينية هي سمة مميزة لحكم شي.
وأضاف الخبير، وهو رئيس مؤسسة كون أيضا، أنه توجد الآن "نقطة انعطاف" في دبلوماسية الصين، مدفوعة بدفاع شي عن التعددية، بينما تتحول الدولة من رد الفعل إلى الاستباق في علاقاتها الدولية.
وبرأي رئيس الوزراء الفرنسي السابق جان بيير رفاران، الذي التقى شي حوالي 12 مرة ، فإن الزعيم الصيني مليئ بالعاطفة.
وأشار رافاران تحديدا إلى اجتماع بشأن الحوكمة العالمية حضره شي خلال زيارته إلى فرنسا في مارس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية انغيلا ميركل ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر.
وفي الاجتماع، تعهد شي بدعم التعددية. وقال إن الصين وأوروبا قوتان رئيسيتان في العالم، ومشاركتان مهمتان في عملية العولمة الاقتصادية وبانيتان لها.
وقال رافاران أن هذا التجمع كان خطوة أولى باتجاه بناء "نمط جديد من التعددية في القرن الـ21".
وأضاف أنه وسط التحولات التي تحدث في الحوكمة العالمية، فإن النظام الحالي متعدد الأطراف والقائم منذ أكثر من 7 عقود يحتاج إلى قوة دفع جديدة.
من حيث القوة، بات وضع آسيا وأفريقيا الآن مختلفا عما كان عليه في الحرب العالمية الثانية، ويجب أن يتم تمثيلهما بشكل صحيح في النظام الدولي متعدد الأطراف، وفقا لرجل الدولة الفرنسي.
"سكين الجيش السويسري"
وفي سياق شرحه لرؤيته بشأن بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية في مكتب الأمم المتحدة في جنيف في أوائل 2017، استدعى شي المرة الأولى التي حصل فيها على سكين الجيش السويسري.
وقال إنه تعجب من كثرة وظائفها ولم يتمالك نفسه من التفكير في "كم سيكون رائعا لو صنعت هذه السكين الرائعة لاستخدامها في شؤوننا العالمية. عندما تكون هناك مشكلة، يمكننا أن نستخدم هذه السكين في علاجها".
وبرأي الكثيرين، تتكشف مثل هذه المجموعة من الوظائف المتعددة للتعاون العالمي بالفعل.
وقبل زيارته إلى بكين في أبريل، قال غوتيريش للصحفيين إن الصين خلقت من خلال مبادرة الحزام والطريق فرصا تنموية.
وذكر الأمين العام للأمم المتحدة أن هناك المزيد من الاستثمارات والتجارة والنمو، الأمر الذي لا يسهم في الحد من الفقر وخلق الوظائف وتحسين البنية التحتية في الدول النامية فحسب، بل يعزز البناء البيئي والاستقرار الاجتماعي والتنمية.
ويرجع سر نجاح مبادرة الحزام والطريق جزئيا إلى حقيقة أنها مبنية على فهم الصين للتعددية.
وقال شي في قمة بريكس في برازيليا إن جوهر التعددية هو أنه ينبغي علاج الشؤون الدولية من خلال المشاورات المكثفة بدلا من أن تقررها دولة واحدة أو عدد قليل من الدول.
وتمسكا بمبدأ التشاور المكثف والمساهمة المشتركة والمنافع المتبادلة، اقترح شي مبادرة الحزام والطريق في 2013، في نفس العام الذي تولى فيه منصبه رئيسا للصين. وأصبحت المبادرة الآن المنصة الأكثر شعبية للتعاون الدولي في العالم.
وقال شي في جولة بميناء بيرايوس، وهو مشروع رئيسي في التعاون بين الصين واليونان في إطار مبادرة الحزام والطريق، خلال زيارته الأخيرة إلى الدولة الأوروبية، إن "الهيمنة من جانب طرف واحد غير مسموح بها في التعاون في إطار الحزام والطريق".
وقال "بدلا من ذلك، سيتقاسم جميع المشاركين المسؤوليات والمنافع في التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق".
وقال كون إن مبادرة الحزام والطريق تقدم مبادئ كبرى لدعم رؤاها الكبرى مثل بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية، مضيفا أنها توسع الروابط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبالتالي فإنها تقلل الاختلالات في التنمية الوطنية، وتوسع النمو الاقتصادي.
وقالت الرئيسة النيبالية بيديا ديفي بنداري، في مقابلة أجرتها معها وكالة ((شينخوا)) في وقت سابق من العام، "هناك أنواع مختلفة من الزهور بألوان مختلفة في حدائقنا ويمكننا أن نصنع أكليلا جميلا من خلال ضم الزهور معا"، مشيرة إلى أن "مبادرة الحزام والطريق يمكنها أن تصنع إكليلا جميلا".
وقال رافاران، وهو زائر متكرر للصين من زيارته الأولى في 1970، إن الرؤية الدبلوماسية للصين متأصلة بعمق ومستهلمة من ثقافتها التقليدية، التي تؤمن بأن التعاون أفضل من المواجهة.
وقال لوكالة ((شينخوا)) في مقابلة أجرتها معه في سبتمبر إن مبادرة الحزام والطريق مبادرة عظيمة لتعزيز التعاون العالمي.
وأتم: "في عالم من الاعتماد المتبادل مثل هذا، يجب أن نوسع تفكيرنا إلى ما وراء القومية بكافة أشكالها لتحقيق مصيرنا المشترك. ولكل هذا وذاك، فإن الصين ستبقى مفيدة للعالم".