تحتل الإنتخابات الرئاسية الأمريكية صفحات الجرائد في أمريكا مع تصاعد وتيرة المنافسة بين المرشحين، وتعكس المظاهر الإنتخابية في أمريكا، مرة أخرى مقولة المفكر إداورد برنايس:"إن الإنتخابات في أمريكا هي عبارة على عروض في الشوارع وإستعراض للمجد والمبالغة في الحديث، والخطب المفتوحة." فالسياسة هي "أكبر تجارة في أمريكا"، وسر الإنتصار يكمن في الرأي العام.
مقولة مؤسس "العلاقات العامة"، توفر لنا زاوية لمراقبة الإنتخابات الرئاسية الأمريكية. حيث لا يمكن للفقراء في أمريكا أن يشاركوا بشكل فعلي في المنافسات، تماما مثل التجارة التي لايمكن ممارستها إلا بوجود رأس مال الإنطلاق. لكن الاموال وحدها لاتكفي، بل يجب أن يحصل المرشح على الدعم. ولاشك في أن تأسيس فريق للمنافسة الإنتخابية، وصناعة أفكار الحملة الإنتخابية شبيه إلى حد كبير بصناعة السلع. فهناك حلقات الدعاية،والتواصل مع الشعب، وبيع الإقتراحات، وهذا يمكن إعتباره نمطا لتسويق السلع.
لكسب دعم الناخبين، يتبادل المرشحون الشتائم والإتهاما، ويستعملون مختلف الوسائل المتاحة. لكن مختلف التصرفات التي يقوم بها المتنافسون على الإنتخابات، تبقى في إطار في يسمى بـ "الصواب السياسي" الأمريكي. وقد ظهر هذا المفهوم في بداية التسعينات، ظهر في البداية داخل الجامعات، ثم إنتشر داخل المجتمع، ويعني إجمالا التمسك بمعايير الأخلاق الإنسانية. وهناك من يرى أن هذه المعايير تتمثل أساسا في إحترام المرأة والمهاجرين والأقليات الإثنية.
لكن الدورة الحالية من الإنتخابات الرائاسية الأمريكية كانت مختلفة. فقد صرح المرشح كارلسون بأنه لا يمكنه أن يقبل رئيسا مسلما لأمريكا. أما المرشح دونالد ترامب فقد كانت تصريحاته أكثر إستفزازا وخروجا عن "الصواب السياسي"، وهناك من خرج عن أدنى حدود معايير "الصواب السياسي". في هذا الصدد، يرى علماء إجتماع بأن الخطاب الإنتخابي في الدورة الإنتخابية الحالية في أمريكا يسعى لمخاطبة "مشاعر التذمر" لدى الناس، أو إستعمال ثقافة كبش فداء.
في ظل العولمة الإقتصادية والأزمة المالية وتغيرات والوضع الدولي، يشهد المجتمع الأمريكي تغيرات عميقة، ما أدى إلى تعمق عملية الفرز بين "الضحايا" و"المستفيدين". مثلا، رغم أن تنفيذ سياسة" التأمين الصحي" التي تبناها أوباما قد عادت بفوائد على العائلات ذات الدخل المحدود، لكنها جعلت الطبقة الوسطى تدفع الثمن، وهو ماجعل العديد من الشركات الصغرى والمتوسطة تلجأ إلى استعمال "عمال تجزء الوقت" لتخفيف مصاريف التأمين الصحي.
تعبر مشاعر التذمر والتضرر عن تغيرات جديدة داخل المجتمع الأمريكي، وهو مايفسك خروج المنافسات الإنتخابية عن منطق "الصواب السياسي". ولا شك أن مخلفات "مشاعر التذمر" و"ثقافة الضحية " لن تقف عند حدود المنافسات الإنتخابية. في هذا السياق، كتب الأكاديمي الأمريكي، آرثر بروكس مؤخرا مقالا، أشار فيه إلى أن هذه الثقافة السياسية وهذه الخلافات الإجتماعية أصبحت من الصعب تهدأتها، وقد جعلت الأشياء التي يمكن الحصول عليها بشكل طبيعي أكثر صعوبة، ودفعت الناس إلى اللهث وراء الشهرة والمصلحة، وعززت فيهم الأنانية.
رغم أن الإنتخابات الأمريكية كانت دائما صاخبة ومعقدة، لكنها هذه المرة تعكس التغيرات الحاصلة داخل المجتمع الأمريكي، وتبقى موضوعا جديرا بالإهتمام.