بقلم: دسوقي عبد الحميد
بكين 4 فبراير 2019 / تمثل الأعياد إحدى أبرز السمات الإنسانية في كل المجتمعات البشرية، ولا تقتصر معانيها على مظاهرها ومباهجها واحتفالاتها، بل تمتد لتعكس ما هو أكبر و أعمق من ذلك. فالأعياد هي أهم المناسبات التي يمكن من خلالها سبر أغوار أي مجتمع، والاطلاع على ثقافته وتقاليده، والتعرف على مدى تجذره في أطناب التاريخ، كما أنها أصدق لوحة حية يمكننا أن نلمس من خلالها تماسك الأسرة التي هي اللبنة الأساسية لكل مجتمع إنساني.
وفي الصين، بلاد التنين، ثمة العديد من الأعياد والمناسبات الاحتفالية التي تعكس كل منها جانبا هاما من جوانب المجتمع الصيني العريق وثقافته، لكن أبرزها وأهمها على الإطلاق هو عيد الربيع (تشونجيه).
-- عيد الربيع والتقويم الصيني
يحتفل الصينيون في الخامس من فبراير الجاري بأهم الأعياد الصينية وأكبرها على الإطلاق وهو عيد الربيع (تشونجيه) والذي يعرف أيضا بعيد لم الشمل. وكما يشير اسم هذا العيد فهو مرتبط بقدوم الربيع، نظرا لأن الصين القديمة كانت مجتمعا زراعيا بالأساس. وعبر آلاف السنين استخدم الصينيون التقويم التقليدي بهدف إرشاد المزارعين إلى المواقيت المناسبة لزراعة المحاصيل وحصادها. وكان عيد الربيع محددا بأول يوم لموسم الربيع، ثم أصبح في أول الشهر الأول من التقويم التقليدي.
وقد أسس الصينيون القدماء تقويما خاصا بهم ينقسم إلى اثني عشر برجا، ويحمل كل منها اسم حيوان من الحيوانات، وتتشكل الدورة الواحدة في هذا التقويم من 12 عاما. وتضم الأبراج الصينية حيوانات الفأر والثور والنمر والأرنب والتنين والأفعى والحصان والماعز والقرد والديك والكلب والخنزير.
ويوافق عام 2019 عام الخنزير حسب تقويم الأبراج الصيني التقليدي، حيث يكن بعض الصينيين حبا جما لهذا الحيوان، ويتفاءلون به كثيرا. ويحرص عدد من الأزواج الصينيين على إنجاب الأبناء في هذا العام، اعتقادا منهم بأن إنجاب طفل في عام الخنزير سيجعله سعيد الحظ ويحيا حياة سعيدة. ومع سماح الحكومة الصينية في الوقت الراهن للأزواج بإنجاب طفلين، فمن المتوقع أن يقبل كثير من الأزواج الصينيين على الإنجاب خلال هذا العام.
-- استعدادات عيد الربيع
يشرع الصينيون في الاستعداد لاستقبال عيد الربيع مع دخول الشهر الثاني عشر للتقويم القمري، حيث يقومون بشراء الملابس والأحذية الجديدة والألعاب النارية والمفرقعات والشرائط الورقية المنقوشة بالأشعار ولوحات رأس السنة الجديدة وصور الآلهة والشموع والفواكه المجففة واللحوم وغيرها من لوازم الاحتفال بالعيد.
وبدءا من اليوم الثامن عشر من الشهر الثاني عشر القمر يسارع الناس إلى تنظيف بيوتهم وإلصاق المقصوصات الورقية على النوافذ والشرائط الورقية المنقوشة بالأشعار على أعتاب الأبواب.
كما تحرص الحكومة الصينية على منح المواطنين الصينيين عطلة طويلة خلال عيد الربيع تمتد لأسبوع، حيث يسافر الكثير من الصينيين إلى مسقط رأسهم للاحتفال بالعيد مع ذويهم. وعادة ما تشهد فترة ما قبل عيد الربيع أكبر موجة للهجرة البشرية على سطح الأرض، متمثلة في عودة ملايين الصينيين إلى مدنهم وبلداتهم الأصلية.
-- الاحتفال بعيد الربيع
يعرف عيد الربيع بعيد لم الشمل، حيث يتحلق أفراد الأسرة عشية استقبال العام الجديد حول مائدة واحدة يتناولون عليها أطيب الأطعمة ويتجاذبون أطراف الحديث في أجواء من المحبة والود والوئام. ويحرص جميع أفراد الأسرة على حضور هذه المناسبة الهامة، وإذا كان بينهم غائب، فيجب أن يجهز له مقعد وأدوات أكل تعبيرا عن وجوده بين أفراد العائلة.
أما مأدبة عيد الربيع فتكون عامرة بأشهى المأكولات، ولا سيما السمك، إذ أن نطق اسم السمك بالصينية "يوي" يشبه نطق كلمة "يويوي" التي تعني الفيض. وفي تلك الليلة تسهر الأسر الصينية تتابع الاحتفالات التي يقدمها التلفزيون الصيني، ومع انتصاف الليل يقومون بإشعال المفرقعات والألعاب النارية احتفالا بقدوم السنة الجديدة وطردا للأرواح الشريرة.
وفي صباح يوم رأس السنة الجديدة، يقوم أفراد الأسرة بقيادة رب البيت بمراسم تقديم القرابين للآلهة وأسلافهم، ثم يقف صغار الأسرة أمام كبارها تعبيرا عن احترامهم لهم، أما الكبار فيردون عليهم بإهدائهم ظروفا بها نقود مع نصائح مشجعة لهم. كما تشرع الأسر في زيارة أقربائها ويتبادلون التحية مع من يعيشون في محيطهم.
-- تغيرات في مظاهر الاحتفال بعيد الربيع
مع مرور الزمن، وتغير أوجه الحياة بالصين، طرأت العديد من التغيرات على مظاهر الاحتفال بعيد الربيع. فبينما كانت الأسر الصينية في السابق تحرص على إشعال المفرقعات النارية، احتفالا بقدوم عيد الربيع ولطرد الأرواح الشريرة، باتت الحكومة الصينية تحظر إشعال تلك المفرقعات في كثير من الأماكن بمختلف المدن، لمنع التلوث والضوضاء ولتحاشي الحوادث المختلفة التي قد تنجم عن هذه المفرقعات.
وعوضا عن ذلك باتت هناك بعض التطبيقات والبرامج على الهاتف المحمول تتيح نماذج إلكترونية لصور وأصوات إشعال المفرقعات النارية، كما يمكن تبادل هذه المظاهر الاحتفالية عبر الهاتف المحمول بين الأهل والأصدقاء والزملاء.
كما ساهمت التكنولوجيا الحديثة في الصين الجديدة في قيام بعض الأسر بتبادل الظروف الحمراء (العيدية) عبر الهاتف المحمول، إذا تعذر تقديمها باليد لانشغال بعض أفراد الأسرة أو لسفرهم إلى خارج الوطن.
ومع تطور وسائل النقل السريع والمواصلات الحديثة في الصين، بات من السهل على أفراد الأسرة القدوم إلى إبنائهم في المدن للاحتفال معهم بعيد الربيع، وهو ما يسمى بالهجرة العكسية، بدلا من ذهاب الابن إلى مسقط رأسه للاحتفال بالعيد مع أسرته.
وساهم ارتفاع مستوى معيشة المواطنين الصينين، إلى إقبال الكثير من الأسر الصينية على قضاء عطلة عيد الربيع في جولات سياحية حول العالم، حيث يسافر خلال عطلة عيد الربيع ملايين الصينيين إلى الخارج للقيام برحلات إلى العديد من المقاصد السياحية المنتشرة في أرجاء الأرض.
-- العالم يحتفل بعيد الربيع
مع بروز مكانة الصين وصعودها السريع، وارتفاع مستوى معيشة المواطن الصيني، بات الكثير من المقاصد السياحية تحرص على الاحتفال بعيد الربيع لاستقطاب السياح الصينيين، وبتنا نرى الأنشطة الاحتفالية بعيد الربيع في شتى أصقاع المعمورة.
ففي مصر تقام الاحتفالات بمناسبة العام التقليدي الصيني الجديد في عدة مواقع بالبلاد منها على سبيل المثال برج القاهرة وقلعة صلاح الدين الأيوبي ومدينة شرم الشيخ السياحية، حيث تقدم فرق فنية صينية العديد من العروض مثل رقصة التنين والساحر والوو شو وغيرها من ألوان الفنون التقليدية الصينية.
كما تشهد مدينة دبي سنويا العديد من الأنشطة الترفيهية التي تتضمن عروضا بالليزر والألعاب النارية حول برج خليفة، احتفالا بالعام الصيني الجديد. كما يقدم مسرح دار الأوبرا بالإمارات عروض الفنون القتالية الصينية.
وتقام أنشطة احتفالية مماثلة في العديد من الدول والمناطق حول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة وكندا واليابان والمملكة المتحدة وفرنسا واستراليا وماليزيا وإندونيسيا والمجر، حيث حرصت بعض هذه الدول على إصدار طوابع تذكارية تحمل علامات بارزة للعام الصيني الجديد.
وتعكس هذه الاحتفالات الكثيرة بعيد الربيع حول العالم، مدى شغف كثير من الناس بالثقافة الصينية، ورغبتها في التعرف على تلك الثقافة العريقة والاستفادة منها واكتساب الخبرات من واقع ما حققته الصين من معجزات اقتصادية واجتماعية وعلمية وتكنولوجية على مدار العقود القليلة الماضية.