بكين 25 ديسمبر 2018 / صبغت تجاذبات وتشابكات القوى الكبرى داخل منطقة الشرق الأوسط وخارجها المنطقة بمزيد من التعقيد في عام 2018، حيث أضحت كلمات من قبيل "مواجهات" و"جمود" و"انقسامات" السمة الأبرز للوضع هناك.
وتأتي في مقدمة الملفات الساخنة هناك كل من الأزمة السورية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والحرب اليمنية والملف الإيراني، فبالرغم من وجود بصيص أمل يلوح في الأفق للتوصل إلى تسويات سياسية في بعضها، إلا أنها ظلت في حالة جمود في عام 2018، مع تعدد الأسباب وتنوعها وخصوصية كل ملف منها والأطراف الفاعلة فيه.
وبينما برز الملف الإيراني في صدارة الاهتمامات هذا العام مع توالي الأحداث وتسارعها، أثارت حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بعد دخوله قنصلية بلاده في اسطنبول التركية تداعيات دولية.
-- مواجهات وانكماش
في عام 2018، غدت القضية الإيرانية محور الاهتمام في منطقة الشرق الأوسط، مع ارتكان إدارة ترامب إلى احتواء إيران كمحور لسياستها تجاه الشرق الأوسط. وأعلنت الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني وأعادت فرض عقوباتها على مرحلتين في أغسطس ونوفمبر وبشكل "أكثر صرامة".
وتهدف الولايات المتحدة إلى إجبار إيران على الخضوع من خلال "أقصى ضغط"، وإعادة توقيع اتفاقية نووية ترسم هي ملامحها، مع إعادة تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط عن طريق تعزيز العلاقات مع السعودية وإسرائيل، الحلفاء الأبرز في المنطقة.
ويكمن جوهر هذه السياسة في تعزيز هيمنة الولايات المتحدة على شؤون الشرق الأوسط من خلال تعزيز قوة حلفائها في المنطقة، في ظل استمرار تنفيذ الانكماش الإستراتيجي وتقليل الاستثمار ودفع الحلفاء، تركيزا على السعودية وإسرائيل، إلى تحمل المزيد من المسؤولية والتكلفة في مجال كبح إيران ومكافحة الإرهاب وغيرها.
وانطلاقا من ذلك، تبنت الولايات المتحدة موقفا منحازا بشكل واضح إلى جانب إسرائيل في الصراع، مع سعيها لدفع "صفقة قرن" مزعومة دون الكشف عنها أو عن ملامحها. أما بالنسبة للسعودية، فقد اقترحت إقامة تحالف يمثل نسخة عربية من "الناتو" بقيادة السعودية ضد إيران. كما قدمت دعما قويا للسياسات السعودية الداخلية والخارجية، وموقفها من قضية خاشقجي كان أقرب مثال، حيث بذلت قصارى جهدها للحفاظ على قوة التحالف الأمريكي-السعودي.
أما في سوريا، فقد أعلنت الولايات المتحدة سحب جميع القوات الأمريكية منها بعد تحقيق "الانتصار" على تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش)، في خطوة حذر مراقبون من أنها قد تهدد بخلق فراغ ونشوب صراع أوسع في بلد تمزقه الحرب منذ سنوات مع عدم رغبة إدارة ترامب في القيام بـ "استثمارات لا معنى لها" في سوريا، وخاصة مع استعادة الحكومة السورية اليد العليا ميدانيا.
باختصار، شكّل احتواء إيران الهاجس الرئيسي لسياسة إدارة ترامب تجاه الشرق الأوسط في 2018، وبما أن هذه السياسة تهدف في الأساس إلى الحصول على أقصى فائدة من أقل استثمارات ممكنة، وإحلال الأحادية والانفرادية بدلا من التعددية المفيدة للجميع، فإن دور الولايات المتحدة ساهم بشكل سلبي أكثر في تعزيز المواجهات والانقسامات في المنطقة. وباتت سياسة الولايات المتحدة لاحتواء إيران مصدرا للتوتر الشديد في الشرق الأوسط وخاصة في منطقة الخليج.
-- مواجهات وجمود
وبين أكثر الملفات سخونة في الشرق الأوسط في عام 2018، برز التصعيد في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني بشكل ملفت للأنظار. ففي 14 مايو، الذي صادف عيد الاستقلال الإسرائيلي و"الجمعة العظيمة" بالنسبة للفلسطينيين، قامت الولايات المتحدة بافتتاح سفارتها لدى إسرائيل في مدينة القدس، مما تسبب في مواجهات عنيفة كانت الأكثر دموية بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي ضمن "مسيرات العودة الكبرى" استجابة لدعوات "مليونية العودة" على الأطراف الحدودية بشرق قطاع غزة، ما أدى إلى مقتل أكثر من 60 فلسطينيا وإصابة أكثر من 3100 آخرين بجروح.
وحاول ترامب أيضا الترويج لـ "صفقة القرن" لحل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين وإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط، دون أن يتم الإعلان عن تفاصيلها حتى اللحظة، حيث التقى ترامب في يونيو الماضي بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، معربا عن أمله في حصول هذه الصفقة على تأييد الحلفاء في وقت مارست فيه الولايات المتحدة ضغوطا على دول أخرى للتماهي مع آرائها تجاه الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني، الأمر الذي يهدد بحدوث تصعيد في هذا الصراع.
وبالنسبة للأزمة السورية، فهي تعيش حالة جمود نسبي إلى حد ما أيضا. فقد واصل الجيش السوري عملياته ميدانيا بدعم من روسيا، واستمر في توسيع رقعة الأراضي الخاضعة لسيطرته، وطرد المسلحين المعارضين إلى إدلب.
والوضع الآن في سوريا يسوده الانقسام بين أراض خاضعة لسيطرة القوات الحكومية المدعومة من روسيا، تضم الجزء الأكبر من البلاد، وأراض خاضعة لسيطرة الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة، تتركز في الشمال الشرقي من البلاد، في حين تسيطر تركيا على جزء صغير يقع على حدودها الجنوبية شمال سوريا، بينما تسيطر جماعات المعارضة المسلحة على إدلب ومحيطها، فيما ما يزال هناك جيوب أخرى في شرقي البلاد خاضعة لسيطرة "داعش".
وعلى صعيد العملية السياسية، فإن مسارات مختلفة تحت رعاية الغرب وروسيا تجري في نفس الوقت. ورغم أنها لعبت دورا معينا في وقف العنف وتخفيف حدة الصراعات، الا ان المحللين يقولون إنه من الصعب التوصل إلى اتفاق حول ترتيبات ما بعد الحرب، الأمر الذي يعكس تماما مدى التنافس بين القوى الكبرى والإقليمية في ما يخص الأزمة السورية.
وبالنسبة للصراع اليمني، فقد تحققت انفراجة في محادثات السلام مؤخرا لكن الجمود لا يزال يسيطر على المسار السياسي العام. وانعقدت جولة مشاورات يمنية برعاية أممية في ستوكهولم بالسويد خلال الفترة من 6 إلى 13 ديسمبر، واتفق خلالها طرفا المشاورات، الحكومة والحوثيون، على وقف إطلاق النار في الحديدة وانسحاب جميع القوات من المدينة الساحلية ومينائها خلال 21 يوما، بعدما تسبب القتال في كارثة إنسانية ضخمة، كونها الميناء الرئيسي الذي يتعامل مع 80 في المائة من المساعدات الإنسانية القادمة إلى البلد الذي تمزقه الحرب. وفي اعقاب ذلك أصدر مجلس الأمن قرارا بالإجماع أكد على مواصلة التشاور السياسي في اليمن ونشر فريق أممي في الحديدة لمراقبة وقف إطلاق النار وتسهيل تنفيذ اتفاق ستوكهولم.
وجاء ذلك بعد أن صوت مجلس الشيوخ الأمريكي في ديسمبر الجاري لصالح إنهاء المساعدات العسكرية الأمريكية للعملية التي تقودها السعودية في اليمن وتحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان "المسؤولية" عن مقتل خاشقجي، في احتجاج غير عادي على تعاطي إدارة ترامب مع الخسائر بين المدنيين في اليمن وقضية مقتل خاشقجي، وذكرت وسائل الإعلام أمريكية أن القرارين يعتبران رمزيين إلى حد كبير حيث من غير المرجح أن يمررهما مجلس النواب أو يوافق عليهما ترامب.
-- مواجهات وانقسامات
وفي ضوء العوامل الخارجية المؤثرة على منطقة الشرق الأوسط، يرى المحللون أن سياسة إدارة ترامب تجاه المنطقة تشهد تراجعا استراتيجيا في ظل عدم وجود ملامح إستراتيجية واضحة لها. وأدت ممارسة الولايات المتحدة هذه إلى اهتزاز نسبي في موثوقيتها. ورغم اتساع دور روسيا في المنطقة، إلا أنها لأسباب تتعلق بالقدرات كما يقول المحللون لا يمكن أن تستحوذ على الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكنها قادرة على الحفاظ على مصالحها الحقيقية دون الوصول إلى الهيمنة.
واتفقت الآراء على أن عدم وجود نية حقيقية للولايات المتحدة وروسيا ومحدودية قدرات الدول الأخرى يدفع دول المنطقة نحو السعي لتعزيز أمنها الخاص وتوسيع نفوذها الإقليمي، في وضع جدي قد يجلب التغيير في منطقة الشرق الأوسط.
وبصرف النظر عن حقيقة استمرار المواجهة بين السعودية وإيران، فقد شهدت المنطقة تجدد خلافات قديمة وإن كانت بخصوص قضايا جديدة.
أولا، تزايدت التجاذبات بين السعودية وتركيا. فخلال السنوات الأخيرة، كانت هناك اختلاف واسع بين تركيا والسعودية في ما يخص التعاطي مع قضايا ساخنة عدة بما في ذلك الإخوان المسلمين وأزمة قطر. وفي أكتوبر الماضي، جددت قضية مقتل خاشقجي التجاذبات بين الدولتين، وخاصة مع تصريحات تركية ألمحت إلى تورط أشخاص مقربين من ولي العهد في مقتل خاشقجي، وسط تأكيد سعودي بأن ولي العهد ليس له علاقة بالقضية، الأمر الذي لا يوثر على المنطقة فحسب، بل أيضا على علاقة كليهما مع الولايات المتحدة.
ثانيا، استمرار الانقسام بين دول مجلس التعاون الخليجي، إذ لا تزال الأزمة بين دول المقاطعة ضمن المجلس --السعودية والإمارات والبحرين، إضافة إلى مصر من خارجه، من طرف، وقطر من طرف آخر تواجه طريقا مسدودا. ومع إعلان قطر انسحابها من منظمة "أوبك" وغياب الأمير عن قمة المجلس في نهاية عام 2018 رغم تلقيه الدعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، أظهر مدى صعوبة حل الأزمة بين الجانبين.
وختاما، روجت الولايات المتحدة لإنشاء "تحالف الشرق الأوسط الجديد"، الموجه ضد إيران، مما يضع دول عربية في خندق واحد مع إسرائيل. وبالعموم، فقد شهدت العلاقات الإسرائيلية- العربية تحسنا إلى حد ما. وأرجع المحللون ذلك إلى سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران وسياستها في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، التي تهدف إلى تسهيل التطبيع بين إسرائيل ودول عربية من أجل الترويج لحلولها المقترحة ضمن "صفقة القرن".