نادرا ما يجري التطلع إلى هذا الحد لزيارة رسمية لرئيس وزراء بريطاني إلى الصين بعد تقارير عن تأجيلها عدة مرات منذ مطلع العام الماضي بسبب جوانب عدم يقين رئيسية في الداخل. والآن صارت الزيارة حقيقة.
فبعد عام من الانتخابات العامة والتعديل الوزاري ومفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) الصعبة والتي لا تزال جارية، بدأت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي اليوم (الأربعاء) أول زيارة رسمية لها إلى الصين منذ أن تولت مهام منصبها في عام 2016.
كما تعد هذه الزيارة التي تستمر ثلاثة أيام الأولى لرئيس وزراء بريطاني إلى الصين منذ زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لبريطانيا في أكتوبر 2015 والتي اتفق خلالها الجانبان على احتضان "العصر الذهبي" للعلاقات الثنائية.
وتأتي زيارة تيريزا ماي بعد وقت قصير من زيارة دولة قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصين في وقت سابق من الشهر الجاري. وهذا يدل على أن الجانبين حريصان على تحسين علاقاتهما في وقت تتزايد فيه التحديات وحال عدم اليقين العالمية.
وللتخفيف من تأثير حافة هاوية محتملة نتيجة بريكست، تتعرض بريطانيا لضغوط هائلة لتوطيد العلاقات التجارية الثنائية فيما وراء أوروبا.
إن بريطانيا هي ثاني أكبر شريك تجاري للصين داخل الاتحاد الأوروبي فيما تعد الصين ثاني أكبر شريك تجاري لبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي. ومع وصول حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 79 مليار دولار أمريكي في عام 2017، تعد الصين إحدى الدول التي تأمل بريطانيا في توقيع اتفاقية تجارة حرة معها بمجرد أن تخرج من الاتحاد الأوروبي في مارس 2019.
وفي الوقت الذي تتخذ فيه واشنطن مزيدا من الإجراءات التي تحمل رائحة نفاذة من الحمائية، تقف العلاقات بين بكين ولندن أمام فرصة بلوغ آفاق جديدة في ظل التزام الجانبين بالتجارة الحرة والعولمة.
والأكثر من ذلك أنه في ظل "تأثير التحرر" الناتج عن بريكست، يمكن لبريطانيا أن تتطلع إلى ما هو أبعد من شراكاتها التقليدية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتنظر للصين كشريك يحمل إمكانات جديدة مثيرة.
وكنتيجة رئيسية تم التوصل إليها في الحوار الاقتصادي والمالي الذي جرى بين الصين وبريطانيا مؤخرا، اقترح الجانبان تأسيس صندوق استثماري ثنائي تتضمن الجولة الأولى منه 1.3 مليار دولار لخلق فرص عمل وتعزيز التجارة ودعم مبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها الصين.
كما تعتزم الدولتان تكثيف التعاون العملي في مجالات مثل التكنولوجيا النووية، والقطار فائق السرعة، والطاقة، والفضاء، والذكاء الصناعي وغيرها.
لقد أصبحت العلاقات بين الصين وبريطانيا مثالا يحتذي به في العلاقات بين الصين والغرب من حيث تنحية الخلافات جانبا والسعي إلى تحقيق أكبر قاعدة مشتركة ممكنة.
كما تجدر الإشارة إلى أن بريطانيا هي أول دولة غربية كبرى تنضم إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية كعضو مؤسس.
ومن المتوقع أن يمد مشروع محطة هينكلي بوينت سي الهام للطاقة النووية، الذي تقدم شركة صينية ثلث استثماراته، يمد ستة ملايين منزل بالكهرباء بحلول عام 2025 ويخلق 25 ألف فرصة عمل أثناء تشييده و900 وظيفة دائمة طوال عمر المحطة الذي يصل إلى 60 عاما.
وتعد زيارة أسطول الحراسة البحرية الصيني إلى مرفأ الكناري،الذي يمثل بمعنى الكلمة قلب لندن وذلك في أكتوبر من العام الماضي وللمرة الأولى في التاريخ، تعد علامة أخرى على الثقة المتبادلة الوثيقة بين البلدين.
ويمكن أن تساعد زيارة تيريزا ماي للصين، التي تحمل روح استشراف المستقبل، تساعد في دخول مرحلة جديدة من "العصر الذهبي". فوجود علاقات صينية- بريطانية قوية لا يصب فقط في صالح البلدين، وإنما يبعث أيضا برسالة قوية وحيوية في أنحاء العالم مفادها أن التجارة المفتوحة والحرة مازالت سائدة.
ومع ذلك، فإن الثقة تكتسب بصعوبة ويمكن أن تفقد بسهولة تامة. فقد اجتازت العلاقات الصينية - البريطانية فترة استياء عندما قامت تيريزا ماي، بعد فترة وجيزة من توليها رئاسة الوزراء في عام 2016، بتأجيل الموافقة على مشروع محطة هينكلي بوينت سي، مشيرة في ذلك إلى "مخاوف أمنية" تجاه الاستثمارات الصينية. وإن إجراء لا أساس له كهذا، يدل على "رهاب الصين"، لا يضر فقط بالعلاقات الصينية - البريطانية، وإنما أيضا بصورة "بريطانيا عظمى" تروج لها الزعيمة البريطانية كثيرا.
فعلاقات ثنائية قوية، شأنها شأن أي علاقات أخري، تتطلب توافر ثقة متبادلة مطردة ورؤية بعيدة.
إن "العصر الذهبي أمامنا، وليس خلفنا"، ليس هناك أدق من عبارة وليم شكسبير هذه لوصف هذه المرحلة الهامة. وثمة حاجة إلى صقل وتغذية "العصر الذهبي" ليظل لامعا ويصبح أكثر إشراقا.