بقلم: غزوان بريك
بكين 22 مارس 2017 / لطالما شهدت البشرية اندلاع الحروب بين الشعوب سعيا وراء السيطرة والنفوذ ونهب الثروات والموارد، ما خلّف أنهارا من الدماء ودمارا واسعا أتى على "الأخضر واليابس". ولطالما كانت نتائج الحروب كارثية وظالمة وضيقة الأفق، فلا المنتصر "المزعوم" هنِئ واستمتع بنصره، ولا المهزوم "المفترض" استكان لانكساره مهما طال به الزمن.
فهل يجدر بالعالم (بعد كل هذه الدماء والكوارث) الاستمرار بتبني سياسة الغاب واستقواء القوي على الضعيف؟
وبنظرة سريعة على ما شهده القرن العشرين وحده من حربين عالميتين وحروب أخرى مدمرة، فضلا عن الأزمات الاقتصادية الطاحنة والكساد الذي ضرب مفاصل الاقتصاد العالمي مرات عدة، وما نتج عن كل ذلك من أزمات طالت كل شيئ على هذه الأرض، يعود السؤال نفسه ليظهر من جديد :
إلى متى نستمر بتبني سياسة الغاب التي لا تليق بنا كبشر؟.
ثم؛ أبعد كل هذا التطور الحضاري والاختراقات العلمية والتكنولوجية، ألا زلنا "حقا" غير قادرين على انتهاج أو ابتكار أسلوب جديد يقوم على معالجة الخلافات على أسس حضارية؟
تميزت الدبلوماسية الصينية بمبادئ التعايش السلمي الخمسة، وحرصت الصين على تطبيقها "قولا وفعلا"، فلم تكن مجرد شعارات رنانة تُرفع لتخفي وراء ستائرها أجندات استعمارية أو توسعية، كما أنها لم تسعَ نحو دخول بلدان أخرى في العالم أو "فرض" نفسها بمعنى أدق من خلال انتهاج سياسات ووسائل ضغط لإجبار الدول المعنية على فتح أبوابها صاغرة والاستسلام أمام نهب ثرواتها كما دأبت دول قوية متقدمة على فعله دائما، ضاربة بعرض الحائط كل ما تشدقت به من شعارات الاحترام المتبادل والديمقراطية وحقوق الإنسان والشعوب في التنمية والتطور.
ولعل ما قاله الرئيس شي جين بينغ في كلمته التي ألقاها في جامعة الدول العربية يعتبر تجسيدا واضحا لتوجه الدبلوماسية الصينية في تعاملها العقلاني والحكيم لحل أي نزاعات ، حيث قال الرئيس شي :"إن مفتاح تسوية الخلافات يكمن في تعزيز الحوار، لأن المشاكل لا تُحل بالقوة، والأمن لا يدوم بعقلية المحصلة الصفرية. ورغم أن طريق الحوار قد يكون طويلا أو قد يشوبه التراجع، إلا أن نتائجه أكثر ديمومة" ليتابع بعدها بطرح وجهة نظر بعيدة المدى لضمان ديمومة الاستقرار ودفع التطور في المناطق الساخنة حيث أشار بالقول :" إن تسريع عجلة التنمية أمر ضروري يضمن قضية حياة وكرامة الشعوب، ويبعدها عن الجنوح نحو التطرف والعنف والإرهاب في سلوكهم" مؤكدا في ذات الوقت على ضرورة مراعاة الخصوصيات الوطنية والتاريخية والثقافية ومستواها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
ورغم الحملات الإعلامية المحمومة والضغوط الكبيرة التي ما تزال الصين تتعرض لها بقصد تشويه صورتها عالميا وإظهارها كمستعمر جديد، إلا أن النتائج الملموسة على أرض الواقع، ولا سيما من قبل شعوب مختلف الدول التي تحظى بعلاقات مميزة مع الصين تثبت بطلان هذه الادعاءات جملة وتفصيلا.
وبنظرة عميقة وتحليلية على سياسة الصين الداعمة والداعية دائما إلى حل أي خلافات أو حساسيات عن طريق الحوار والتشاور وصولا إلى تحقيق الفوز المشترك للجميع، سيلاحظ أي متابع جاد وموضوعي أن الصين لم تدعُ يوما لاستعمال القوة بمختلف أشكالها لفرض حلول معينة تخدم طرفا على حساب آخر، كما أنها لم تنحز يوما لصالح جهة على حساب أخرى طمعا بالحصول على مكاسب شخصية، على عكس كثير من الدول التي لا تنفك عن التدخل وتقديم الدعم واستخدام مختلف أشكال القوة لتحقيق مآربها ومصالحها الشخصية، بغض النظر عما تخلفه وراءها من كوارث اقتصادية وبشرية يندى لها الجبين. فنظرة سريعة على ما يشهده العالم حاليا كفيلة بإثبات ذلك.
وفي السنوات القليلة الماضية، كان من اللافت توجيه كثير من الدول بوصلاتها نحو الصين، بعد أن تأكدت وثبت لها جدية الصين في مد يد التعاون الصادق، وتحقيق المنافع المشتركة على أسس الاحترام المتبادل والتكافؤ والمساواة، وأن "لا غالب ولا مغلوب" في التعامل مع الصين وإنما " فوز مشترك" للجميع. ولا سيما بعد أن عانت تلك الدول ولمست تغيرات في أساليب وسياسات التعامل معها من الدول القوية المتقدمة تبعا لتغيرات الظروف الدولية وما تشهده من تقلبات سياسية واقتصادية متسارعة ، ليثبت لها بالدليل القاطع أنها لا تعدو كونها مجرد "دُمى" أو أدوات تستخدمها الدول القوية لمصالحها الشخصية فقط، وبأنها ستتعرض للإهمال أو التجاهل التام عند انتهاء الحاجة إليها، والأمثلة كثيرة ولا حاجة لمزيد من التفصيل والتسمية.
وهنا يبرز سؤال آخر: لو كانت الصين مستعمرا جديدا، فلماذا باتت قبلة لكثير من دول العالم ؟؟
ثم؛ لو لم يثبت للعالم صدق الصين "قولا وفعلا" فلماذا يرتفع حجم المطالبات الدولية (دولا ومنظمات) للصين لمد يد العون على مختلف الصعد والمجالات؟
وأخيرا وليس آخرا، لماذا باتت العديد من الدول المتقدمة تكثف من اتصالاتها وعلاقاتها مع الصين سواء للمساعدة على تجاوز ظروف صعبة وحساسة تمر بها، أو لضمان موطئ قدم لها في مستقبل الخارطة الدولية الجديدة، وقدم السبق فيما تشهده الصين من تطورات هائلة وما توفره من فرص استثمارية واقتصادية وتجارية سانحة للعالم بأسره؟
هذه الأسئلة تبقى برسم الإجابة لدى المستمرين في التشكيك بنوايا الصين وسياساتها، فلا حاجة لمن تعاون فعليا مع الصين للإجابة على مثل هذه التساؤلات التي لا تعدو كونها مجرد محاولات يائسة لسد الشمس بغربال.
وفي هذا الصدد، كان من اللافت مؤخرا، التصريحات المختلفة التي أدلت بها الإدارة الأمريكية الجديدة وكان أولها ما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فى مكالمة هاتفية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في يوم 10 فبراير الماضي، حيث أكد التزام إدارته بسياسة صين واحدة، على عكس موقفه السابق، ما أرسل إشارة ايجابية حول العلاقات الثنائية بين البلدين. ليتبعه بعد ذلك تصريحات ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكية الذي تعهد خلال زيارته الأولى للصين باستعداد بلاده لتطوير العلاقات مع الصين على اساس مبادىء عدم التنازع وعدم التواجه، والاحترام المتبادل والتعاون الذى يحقق المنفعة المشتركة، ما يعد إعادة للتأكيد على أهمية المبادىء التى اقترحتها الصين فى عام 2013 بضرورة أن تسود روح التعاون العلاقات الصينية- الأمريكية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن ملاحظة تغير نمط ولهجة الإدارة الأمريكية في تعاملها مع الصين بخلاف سياسة الإدارة السابقة، في محاولة لإعادة العلاقات الثنائية إلى مسارها الذي يجب أن تكون عليه رغم التقلبات والمنعطفات التي شهدتها العلاقات على مدار أربعة عقود مضت، ولا سيما أن الصين باتت حاليا أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، حيث وصل حجم التجارة الثنائي عام 2016 إلى 500 مليار دولار أمريكي، فيما ساهمت التجارة والاستثمارات بين الصين والولايات المتحدة على خلق نحو 2.6 مليون وظيفة فى الولايات المتحدة فى عام 2015 فى مجموعة من الصناعات الامريكية من السيارات ومعدات البناء إلى الزراعة.
وبعد هذا العرض البسيط والواضح، نعود لنقطة البدء لنتساءل مجددا حول قدرتنا على إيجاد وتبني أساليب جديدة لحل الخلافات أياً كانت، على أسس الحوار والتشاور والفوز المشترك للجميع بدلا من الصراع والتنازع وزيادة التوتر.
أفلا يستحق النموذج الصيني دراسته والتعاطي معه بموضوعية وعقلانية ؟؟