بقلم / الاستاذ خليل لوه لين، عميد كلية دراسات الشرق الأوسط في جامعة بكين واللغات والثقافة
إن هذا اليوم مبارك لكل العرب والمستعربين في كل أنحاء العالم، ويوم للاحتفاء بلغة الضاد الجميلة،التي ننطق ونتواصل بها بشغف وفخر. لقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي "إن الذي ملأ اللغاتِ مَحَاسِنَاً جعلَ الجمالَ وسرَه في الضاد". ولغة الضاد هي قلب الأمة العربية النابض ولسانها الناطق ومفتاح هويتها وقاموس أسرارها، وأهم أدوات التفكير والتواصل لأبنائها. العربيةُ لغةٌ كاملةٌ عجيبةُ، تكادُ تصورُ ألفاظُها مشاهدَ الطبيعةِ، وتمثلُ كلماتُها خطراتِ النفوسِ، وتكادُ تتجلى معانيِها في أجراسِ الألفاظِ، وواحدة من أهم اللغات المعاصرة، والتي تنتشر في نطاق جغرافي واسع يمتد على قارتين، ويتحدث بها ملايين الناس، تنضوي تحت لوائِها مِللٌ ونِحَلٌ مختلفةٌ وبلاد عديدةُ. ولغة ضربت بجذورِها في عمق التاريخ وتكيفت مع مختلف الأزمِنة والأمكِنة، فحافظت على مكانتها، بل وزادها ذلك انتشارا، و أكثر اللغات السامية التي بقيت أقرب إلى الأصْلِ، وإن كانت أحدثَها نشأةً وتاريخا، وواحدة من أقدم اللغات في العالم وأكثرها ثراء من حيث الألفاظ والتراكيب والأساليب البيانية. استَخدَمت العديدُ من اللغات الأجنبية بعض الكلمات من العربية وأخذتها منها. هي لغة تتوفر على عدد ضخم من المفردات التي تتعلق بنفس الكلمة، والتي تؤدي إلى نفس المعنى، وهذا الأمر تفتقد إليه معظمُ اللغات الأخرى، وتضم مجموعةً من الأصوات المتعددة، فهناك الترقيق والتفخيم والإدغام وغيرها. كما أن الاشتقاق من الخصائص التي تُميزُ العربيةَ عن غيرها من اللغات، حيث يمكن اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المُشبَّهة باسم الفاعل واسم التفضيل وأسماء المكان والزمان والآلة من المصدر حسب رأي البصريين، أو من الفعل حسب رأي الكُوفيين.
اللغة العربية وعاءٌ لحضارة واسعة النطاق، عميقة الأثر، ممتدة التاريخ. هي لغة نَقَلت إلى البشرية في فترة ما أُسُسَ الحضارةِ وعواملَ التقدم في كل العلوم الطبيعية والرياضيات والطب والفَلَك والموسيقى وغيرها. هي من اللغات الرسمية في الأمم المتحدة، منذ اعتماد قرار الجمعية العامة رقم 3190 قبل 48 عاما، باعتبارها من اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
موضوع اليوم العالمي للغة العربية لهذا العام هو "اللغة العربية والتواصل الحضاري"، لإبراز دورها التاريخي في تعزيز التبادلات والتفاهم بين الشعوب المختلفة وتكثيف التبادل بين الحضارات المتنوعة، بل وتسريع بناء رابطة المصير المشترك للبشرية.
حقيقةُ القولِ إن اللغة العربية كانت ولاتزال أداة مساهمة في تعميق العلاقات الودية بين الصين والدول العربية. يرجع تاريخ التبادلات بين الأمتين إلى ما قبل ألفي سنة في فترة أسرة هان، حيث شق تشانغ تشيان "طريق الحرير"، فأنشأ أول علاقة بين الأمتين العريقتين. في منتصف القرن السابع الميلادي، أرسل الخليفة عثمان بن عفان مبعوثا عربيا لأول مرة إلى مدينة تشانغآن (شيآن حاليا) التي كانت عاصمة الصين في فترة أسرة تانغ، وهذا يرمز إلى نقطة البداية الرسمية للتواصل بين الحضارتين. بعد ذلك، ازداد عدد العرب الذين جاءوا إلى الصين للتجارة وأقاموا في تشانغآن وقوانغتشو وتشيوانتشو وغيرها من المدن الصينية الكبيرة. مع تعزيز التبادلات السياسية والتجارية بين الصين والعالم العربي، دخلت اللغة العربية إلى الصين وصارت إحدى أقدم وأهم اللغات الأجنبية في تاريخ التبادلات بين الصين والدول الأجنبية.
مع تعزيز التبادلات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية بين هاتين الحضارتين المزدهرتين في القرون اللاحقة، حقق تعلم اللغة العربية تطورا تدريجيا في المجتمع الصيني مما يوفر ضمانا راسخا لتعزيز علاقات الصداقة بينهما. جدير بالذكر هنا، أن هو دنغ تشو من أوائل العلماء الصينيين الذين عملوا على تعليم اللغة العربية في الصين. في القرن السادس عشر الميلادي، في فترة أسرة مينغ، دمج هو دنغ تشو مدارس التعليم الخاص مع المساجد في نظام التعليم التقليدي في الصين القديمة وابتكر أسلوب "جينغتانغ جياويوي" (تعليم اللغة العربية في المساجد)، أي "التعليم المسجدي" لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية. بفضل النتائج المتميزة لهذا النوع من تدريس اللغة العربية، انتشر "جينغتانغ جياويوي" في شمال غربي وجنوب غربي الصين بسرعة، وظهرت دفعات من العلماء الصينيين المتقنين اللغة العربية والماهرين في ترجمة الأعمال العربية إلى اللغة الصينية.
فضلا عن الإنجازات الكبيرة للسيد هو دنغ تشو، قدم الأستاذ ما جيان محمد مكين مساهمات عظيمة في تدريس اللغة العربية في الصين وتعزيز التبادلات الثقافية بين الحضارتين في العصر الحديث. بعد تخرج مكين في جامعة الأزهر وعودته إلى الصين، بذل قصارى جهده في تدريس اللغة العربية في الصين وإجراء الترجمة المتبادلة بين اللغتين العربية الصينية منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين. في عام 1946، أنشأ الأستاذ مكين أول قسم للغة العربية في جامعة بكين، وأسهم في إدراج هذه اللغة في مناهج التعليم العالي الصيني بعد أن كان تعلميها مقتصرا على المساجد منذ قرون، وهذا يعد مَعلَمَا تاريخيا في تدريس اللغة العربية في الصين والعلاقات الصينية- العربية. من أجل تعزيز جودة تدريس هذه اللغة كتابة وقراءة ومحادثة، ابتكر الأستاذ مكين سلسلة من الطرق المميزة على أساس خصائص الصينيين في تعلم اللغات الأجنبية، وأشرف على تأليف أول معجم عربي- صيني، مما قدم موارد هامةً لتطوير تدريس اللغة العربية في الجامعات الصينية.
ويمكن القول إن تدريس اللغة العربية في الجامعات الصينية يتطور بصورة مُطّرِدة. على مدى 75 عاما، أنشأ أكثر ستين جامعة صينية تخصص اللغة العربية، ومنها جامعة هيلونغجيانغ في أقصى شمالي الصين، وجامعة صون يات صن في أقصى جنوبي الصين، وجامعة شيخهتسي بمنطقة شينجيانغ في أقصى غربي الصين وجامعة تشنغتشي في تايوان في أقصى شرقي الصين. يتجاوز عدد دارسي اللغة العربية في المرحلة الجامعية والدراسات العليا بالصين 1500 طالب. يعمل الخريجون في الأجهزة الحكومية والشركات الصينية أو الشركات المتعددة الجنسية ووسائل الإعلام وغيرها، وهم يسهمون في دفع التعاون بين الصين والدول العربية وتقديم مزيد من المنافع إلى الشعبين الصيني والعربي بجهودهم الدؤوبة.
اليوم، في ظل التغيرات غير المسبوقة منذ قرن وتزايد عوامل عدم اليقين في المجتمع الدولي وتفشي جائحة كوفيد- 19 بصورة خطيرة، تدرك الصين والدول العربية، أننا في رابطة مصير مشترك في السراء والضراء، وأنّْ تَبَنْي المفهوم الحضاري المتسم بالمساواة والاستفادة المتبادلة والحوار والشمول هو وسيلة فعالة لتعميق الثقة المتبادلة وإيجاد الطريق السليم لحل المعضلات وتحقيق إنجازات أعظم في المستقبل. اللغة العربية، كونها جسرا هاما لتقارب قلوب الشعبين الصيني والعربي، تتعزز أهميتها مجَدَدَا. هذا يتفق مع موضوع الاحتفال لهذا العام "اللغة العربية والتواصل الحضاري"، وهذا هدفنا المشترك من الالتقاء هنا للاحتفال بهذه المناسبة الخاصة لمناقشة تعزيز دور اللغة العربية في استحداث المعارف وتناقلها وتوسيع نطاق التواصل الحضاري بين الصين والدول العربية.
نحن على ثقة تامة بأنه بفضل مساهماتنا المشتركة، ستتألق اللغة العربية كأداة مهمة لتعزيز السلام والتنمية بين الأمم والشعوب، وستظل جسرا ثقافيا لتوثيق الحوار المخلص بين الصين والدول العربية وتحقيق التفاهم الشامل والمنافع المتبادلة بين الشعبين الصيني والعربي مما يسهم في بناء رابطة المصير المشترك بين الصين والدول العربية وحتى للبشرية جمعاء.