نيويورك أول يناير 2019 / بعد عام من التحسن، قد يواجه الاقتصاد الأمريكي تحديات في عام 2019 حيث يعد تراجع تدابير التحفيز ووجود سياسة نقدية أقل ودية مصاحبة لتباطؤ النمو العالمي، تعد من بين المخاطر المتعددة لحدوث تباطؤ، هكذا أشار اقتصاديون.
وقال محللون من مؤسسة ميريل لينش للأبحاث العالمية التابعة لبنك أوف أمريكا في تقرير أعدوه حول الآفاق الاقتصادية لعام 2019 صدر في ديسمبر إن "نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للولايات المتحدة بنسبة 2.7 في المائة متوقع لعام 2019، مع تسجيل تباطؤ في النصف الثاني من العام في وقت ستبدأ فيه تأثيرات التحفيز المالي في التلاشي".
وقد يصل معدل البطالة إلى أدنى مستوى له في 65 عاما وهو 3.2 في المائة بحلول نهاية العام، ما سيؤدى إلى ارتفاع الأجور بنسبة 3.5 في المائة إجمالا. ومن المفترض أن يرتفع التضخم الأساسي في الأسعار إلى 2.2 في المائة خلال عام 2019 ويستمر مع استمرار ارتفاع الأجور.
وذكر الفريق البحثي أن سوق الإسكان لن يمثل بعد الآن القوة الدافعة للاقتصاد الأمريكي و"نعتقد أن مبيعات المساكن بلغت ذروتها ومن المتوقع أن يتباطأ ارتفاع أسعار المنازل".
-- تباطؤ النمو
واتفقت العديد من المؤسسات الشهيرة على نطاق واسع مع التوقعات بحدوث تباطؤ اقتصادي.
فقد قال بنك غولدمان ساكس في نوفمبر إن نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي سيتباطأ إلى أقل من 2 في المائة في النصف الثاني من عام 2019، حيث يواصل الاحتياطي الفدرالي الأمريكي رفع أسعار الفائدة وتتلاشى آثار تخفيضات ضريبة الشركات.
وكتب يان هاتزيوس كبير الاقتصاديين بالبنك الاستثماري في مذكرة للعملاء "من المرجح أن يتباطأ النمو بشكل كبير في العام المقبل، من نسبته المسجلة مؤخرا وهي زائد 3.5 في المائة إلى تقديراتنا المحتملة التي تصل إلى ما يقرب من 1.75 في المائة بحلول نهاية عام 2019".
وقال هاتزيوس "نتوقع أن تكون الأوضاع المالية الأكثر تشددا والتحفيز المالي الآخذ في التضاؤل المحركان الرئيسيان لتراجع النمو".
وشهد البنك توسع الاقتصاد بنسبة 2.5 في المائة في الربع الأخير من عام 2018، بانخفاض من 3.5 في المائة في الربع الثالث. وسيأتي نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.5 في المائة مرة أخرى في الربع الأول من عام 2019، لكنه سيتباطأ بعد ذلك إلى 2.2 في المائة و1.8 في المائة و1.6 في المائة في الأرباع الثلاثة المقبلة على التوالي.
لقد كان عام 2018 عاما ممتازا بالنسبة لأكبر اقتصاد في العالم، وخاصة في الربعين الثاني والثالث، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى الإنفاق الفدرالي وخفض الضرائب.
فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بوتيرة سنوية بلغت 3.4 في المائة و4.2 في المائة في الربع الثاني، حسبما أفادت وزارة التجارة في أواخر ديسمبر في تقديرها الثالث.
وقالت الوزارة إن الاقتصاد عمل بأقصى طاقة ممكنة حيث أنفق المستهلكون بصورة أكبر واستثمرت الشركات في المخزونات، وحافظت الحكومات المحلية على إنفاقها.
وفي الوقت الذي لا تزال تبدو فيه العديد من المقاييس بالنسبة للاقتصاد الأمريكي مشجعة - فالبطالة تقترب من أدنى مستوياتها في نصف قرن والتضخم تحت السيطرة ونمو الأجور يرتفع وإنفاق المستهلكين كان قويا في موسم الأعياد - إلا أن خبراء الاقتصاد حذروا من أن رياحا معاكسة تلوح في الأفق.
وحذر غريغوري داكو كبير الاقتصاديين الأمريكيين في مؤسسة ((أكسفورد إيكونومكس)) مؤخرا من أن انخفاض سوق الأسهم يعكس أخطارا متعددة يمكن أن تتغذى على نفسها.
ونقلت وكالة ((أسوشيتدبرس)) عن داكو قوله "ما يهم حقا هو كيف ينظر الناس إلى هذه الرياح المعاكسة - فالآن تنظر الأسواق والمستثمرون لها على أنها تقودنا إلى بيئة ركود اقتصادي".
فقد قدرت شركة التوقعات ((ماكروإيكونومكس أدفايزرز)) في نوفمبر نسبة النمو بـ2.5 في المائة للربع الأخير من عام 2018.
وتوقع بنك الاحتياطي الفدرالي أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 3 في المائة في عام 2018، وهي نسبة أقل بقليل من الـ3.1 في المائة المقدرة في سبتمبر، وفقا لآخر توقعاته الاقتصادية في ديسمبر. علاوة على ذلك، خفض البنك المركزي توقعاته للنمو لعام 2019 من 2.5 في المائة إلى 2.3 في المائة.
-- زخم يتضاءل
توقع المحللون تضاؤل الحافز المالي في العام المقبل، مشيرين إلى أن قوة الدفع الناتجة عن التخفيضات الضريبية ليست "مستدامة".
فالاقتصاد الأمريكي أظهر علامات على دورة توسع متأخرة في أوائل عام 2016، هكذا قالت قوان نينغ المؤسسة المشاركة والرئيسة التنفيذية لشركة ((كوانت سبيس إيه إم))، وهي شركة أمريكية لإدارة الأصول، في حديثها لوكالة أنباء ((شينخوا)) في شهر أكتوبر، مضيفة أن السياسات التي تشمل التخفيضات الضريبية ورفع القيود قد عززت سوق الأسهم، ما ساعد على إطالة فترة الانتعاش الاقتصادي؛ ومع ذلك، فإن الدورة "ستعود".
وشهدت الولايات المتحدة أكبر إصلاح ضريبي لها منذ ثلاثة عقود في ديسمبر 2017. وفي عملية إعادة هيكلة النظام الضريبي، تم تخفيض معدل ضريبة الشركات من 35 إلى 21 في المائة.
ويتوقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والجمهوريون أن تؤدي هذه الخطوة إلى تعزيز استثمارات الشركات والتوظيف والحيلولة دون مغادرة الشركات للولايات المتحدة، فيما ينتقد الديمقراطيون القانون ويصفونه بأنه هبة للأثرياء.
وتوصلت دراسة حديثة أجراها مجلس المؤتمرات في نيويورك إلى أن توسع الاقتصاد الأمريكي من المرجح أن يصل إلى ذروته في الأشهر القليلة المقبلة، حيث ستتضاءل آثار التخفيضات الضريبية والإنفاق المالي خلال عام 2019.
وأظهرت توقعات اقتصادية سنوية صدرت في نوفمبر عن جامعة ميتشيغان أن آثار التخفيضات الضريبية على الاقتصاد الأمريكي ستبدأ في التراجع في عام 2019 قبل أن تتلاشى في عام 2020.
ومن ناحية أخرى، أشار مسح أجرته الرابطة الوطنية لاقتصادات الأعمال في أكتوبر إلى أن الشركات الأمريكية شهدت هوامش ربح محسنة في الربع الثالث من عام 2018، لكن الإصلاح الضريبي "لم يؤثر بشكل كبير على خطط التوظيف والاستثمار".
وحذر البعض الآخر من أن التخفيضات الضريبية يمكن أن تشكل مخاطر اقتصادية على المدى المتوسط.
وقال صندوق النقد الدولي في يوليو إن هذه المخاطر تشمل زيادة في الدين العام وتضخم مفاجئ وتداعيات دولية غير مباشرة وركود مستقبلي وزيادة الاختلالات العالمية.
وأظهر تقرير صدر حديثا عن وزارة الخزانة الأمريكية أن عجز الميزانية الفدرالية الأمريكية ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ 204.9 مليار دولار في نوفمبر، وهو الشهر الثاني من السنة المالية 2019 للحكومة، بسبب التخفيض الضريبي وزيادة الإنفاق الحكومي.
وحذر مكتب الموازنة التابع للكونغرس من أن تنامي عجز الموازنة سيزيد من الدين العام الأمريكي بشكل حاد خلال الثلاثين عاما القادمة إذا بقيت القوانين الحالية بوجه عام دون تغيير.
وأظهر تقرير سابق صدر عن وزارة الخزانة أن عجز الموازنة الفدرالية سجل 779 مليار دولار في السنة المالية 2018 المنتهية في 30 سبتمبر.
-- تشديد السياسة النقدية
يرى الاقتصاديون أن إتباع سياسة نقدية خاطئة بشكل أسرع أو أكثر تشددا قد يشكل تهديدا للاقتصاد.
فقد رفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة الرئيسية على المدى القصير أربع مرات في عام 2018 وألمح إلى ارتفاعين آخرين في عام 2019. ورفع بوجه عام أسعار الفائدة للحفاظ على النمو تحت السيطرة والحيلولة دون ارتفاع التضخم السنوي بشكل كبير فوق 2 في المائة.
وأشار الخبراء إلى أنه إذا كان البنك المركزي قد أخطأ الحساب ورفع أسعار الفائدة بشكل مفرط أو بسرعة كبيرة للغاية، فهذا قد يؤدي إلى التباطؤ الشديد الذي يحاول مسؤولو الاحتياطي الفدرالي تجنبه.
وحذر بريدجووتر، أكبر صندوق تحوط في العالم، من أن الاقتصاد الأمريكي يواجه تباطؤا يلوح في الأفق، حيث بدأت سياسة نقدية أكثر صرامة تؤثر على النمو وتزيد الضغوط على الأسواق المالية.
وقال بوب برينس، مسؤول الاستثمار المشارك في بريدجووتر، في مذكرة "نحن نقف عند نقطة انعطاف محتملة حيث يتحرك الاقتصاد من المستوى الساخن إلى دون المتوسط".
وذكر كريس لو كبير الاقتصاديين في ((أف تي أن فاينانشيال)) "طالما استمر بنك الاحتياطي الفدرالي في رفع أسعار الفائدة، فإن الواقع الكئيب لخطر ركود بارز سيكون قائما، وستكون التجارة الحكيمة بعيدة عن الأصول الخطرة".
وعلى مدار العام الماضي، أدى رفع أسعار الفائدة الفدرالية إلى تشديد الأوضاع المالية العالمية وكان له آثار غير مباشرة على الأسواق الناشئة التي واجه بعضها ضغوطا قوية فيما يتعلق بتدفق رؤوس الأموال إلى الخارج وتخفيض قيمة العملة.
وتوقعت مؤسسة ميريل لينش التابعة لبنك أوف أمريكا أن تصبح السياسة النقدية العالمية أقل ودية في عام 2019. وقال الباحثون في المؤسسة إن "حكومة منقسمة تعني أن مزيدا من التحفيز المالي في الولايات المتحدة يبدو أمرا مستبعدا. وأوروبا مجمدة إلى حد كبير في مكانها وفقا لقواعد ميزانيتها، ويبدو أن اليابان مستعدة لتنفيذ رفع ضريبة المستهلك مرة أخرى بشكل غير مناسب".
وتوقع مجلس المؤتمرات استمرار السياسة النقدية المتشددة ولكن ربما بوتيرة معتدلة "ما لم يظهر التضخم بصورة أسرع بكثير من المتوقع".
-- مخاطر عالمية
يظهر الاقتصاد العالمي علامات واضحة على التراجع، حيث من المتوقع أن تتوسع الاقتصادات المتقدمة والناشئة بسرعة أبطأ. وقد يؤثر نموهم المتضائل بدوره على الاقتصاد الأمريكي.
وذكرت مؤسسة ميريل لينش التابعة لبنك أوف أمريكا في توقعاتها لعام 2019 أنه من المتوقع أن ينخفض النمو العالمي من 3.8 في المائة في 2018 إلى 3.6 في المائة في 2019 وسط مخاطر محتملة، مضيفة أن تباطؤ النمو من المرجح أن يكون تباطؤا حميدا وليس "ركودا".
وتشير بيئة سياسات أقل ودية إلى تباطؤ كبير في النمو عالميا، فيما يتزايد ترجيح كفة المخاطر بما في ذلك أوجه عدم يقين الناجمة عن استمرار توترات التجارة العالمية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفقا لما ذكره المحللون.
علاوة على ذلك، حذرت دراسة أجرها خبراء بوكالة ((رويترز)) في أكتوبر من أن تصعيدا في الإجراءات التجارية العالمية قد يؤدي إلى تباطؤ كبير في الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2019.
ويشير نيل شيرينج كبير الاقتصاديين في ((كابيتال إيكونوميكس)) إلى أنه "لن يكون هناك أي فائز من حرب تجارية عالمية ... ستكون جميع البلدان في نهاية المطاف أسوأ حالا مقارنة بالوضع الراهن"، مضيفا أن "ذلك سيلحق ضررا دائما بالنمو وسيسبب خسارة دائمة في الإنتاج".
وقال بارت فان آرك نائب الرئيس التنفيذي وكبير الاقتصاديين بمجلس المؤتمرات "بالنظر إلى ما بعد عام 2019، تكمن المخاوف الرئيسية في تباطؤ نمو المعروض من العمالة وتوقعات متواضعة لنمو الإنتاجية".
وتوقعت المؤسسة البحثية أن يصل معدل النمو العالمي إلى 3.1 في المائة في عام 2019، بانخفاض عن 3.2 في المائة في عام 2018.
واجمع الاقتصاديون، المتفائلون أو المتشائمون تجاه المستقبل، على أن عام 2019 من المحتمل أن يكون متخما بالتحديات بالنسبة للمستثمرين وصناع القرار على حد سواء.