بقلم شيماء خه
بكين 12 يناير 2016 / ظل العالم العربي خارج موجات التغيير لعقود طويلة لتهب في مطلع عام 2011 رياح ما يسمي بـ"الربيع العربي" وتنتشر في جنبات العالم العربي بسرعة البرق. والآن وبعد مرور خمسة أعوام، لا تزال هذه الرياح محملة بأحداث كبرى لا تهدأ تقع بين الفنية والأخرى وتلفت أنظار العالم أجمع ولاسيما الخبراء الصينيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط.
فمنذ يومين، التقت نخبة من هؤلاء الخبراء الصينيين تحت سقف واحد في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين للمشاركة في منتدى تحت عنوان "استعراض الأوضاع في الشرق الأوسط بعد مرور خمس سنوات على الاضطرابات العربية" ليعرضوا رؤاهم حول التحول السياسي في هذه المنطقة وما يؤثر فيه من عوامل داخلية وخارجية وأخرى جيوسياسية وما يصاحبه من ظواهر جانبيه كالإرهاب، مستشرفين المستقبل ومعلقين آمالا كبيرة على النخبة السياسية العربية في إنجاح هذا التحول.
-- مرحلة تحول سياسي عميق بالمنطقة
وقد سلط لي شاو شيان، رئيس معهد دراسات الشؤون العربية بجامعة نينغشيا الصينية، الضوء على التحول السياسي في العالم العربي قائلا إنه نتيجة يتعذر منعها إذا ما كانت هناك حقا رغبة في تحقيق تطور سياسي واقتصادي في بلدانه، وإن المظاهرات الكبرى التي شهدتها بعض الدول العربية منذ بداية عام 2011 برهنت على أن النظام القديم غير قادر على حل مشكلة العجز عن تحقيق النمو، ومن ثم، قد يجلب هذا التحول الآمال لشعوب المنطقة. وإنطلاقا من هذه الزاوية يحمل "الربيع العربي" مغزى إيجابيا.
واستفاض الباحث لي شاو شيان في الحديث ليلمح إلى أن حقبة "الربيع العربي" لا تصاحبها تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية فحسب، وإنما إعادة تأسيس نظام جديد بعد انهيار نظام قديم وإعادة تشكيل التوازن بين القوى الجيوسياسية في الإقليم، وهي جميعا أمور ليست بالهينة وتسلتزم فترة من الوقت، وبالتالي فإن التحول السياسي في العالم العربي مازال يقبع في مرحلة الاستكشاف.
و"في الواقع كان لابد للربيع العربي من حل مشكلة تراجع التنمية في العالم العربي، ولكن بسبب التناقضات الداخلية العميقة وأوجه الخلل في التوازن الجيوسياسي بالمنطقة عقب إطاحة واشنطن بنظام صدام في العراق عام 2003، قد لا يكون التحول في العالم العربي يسيرا، غير أنه سيحرز تقدما مع مرور الزمان" على حد قول لي شاو شيان.
ومن وجهة نظر وانغ لين تسونغ، مساعد رئيس قسم شؤون غرب آسيا وشمال إفريقيا بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية ، إن ثمة فهم خاطئ سائد بشأن التحول السياسي، أولا: يعتقد أنه بعد التخلص من الدكتاتورية، ستتحول الدولة إلى النظام الديمقراطي تلقائيا ولكن الآن رغم أن الحكم أصبح غير دكتاتوري إلا أنه غير ديمقراطي؛ ثانيا، يعتقد أن التحول سيسير وفقا لخطوات متسقة ومتسلسلة، والآن الحقيقة تكشف أنه الأمور لا تسير على هذا المنوال. ثالثا: يعتقد أن التحول يعنى انتخابات ديمقراطية، والحقيقة أن التحول إلى الديمقراطية عملية غير قابلة للسيطرة ومعقدة للغاية وفي حاجة لتهيئة ظروف مسبقة.
وأرجع وانغ مواجهة المرحلة الأولى من عملية التحول السياسي في الشرق الأوسط لعثرات إلى كونها متشابكة وطويلة وتعرقلها كثرة الاضطرابات وظهور عوامل جانبية إلى الواجهة مثل خطر الإرهاب، ضاربا مثالا على ذلك بليبيا واليمن اللتين لم تتضح فيهما بعد ملامح طريقهما الخاص للتنمية.
وشاطره الرأى هوا لي مينغ، سفير الصين الأسبق لدى إيران، قائلا إن منطقة الشرق الأوسط شهدت بعد "الربيع العربي" عدة تغيرات من بينها ظهور قوى متطرفة مثل تنظيم (داعش)، وانقسام أراضي سوريا والعراق ذات السيادة، وتهميش عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية، وتزايد نفوذ إيران، وغيرها من التغيرات.
وعزا هوا هذه التغيرات إلى عدة أسباب، أولها: تحول إستراتيجية الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا-الباسيفيك وجنوحها إلى الحد من جهودها في الشرق الأوسط دون تقليص نفوذها فيه؛ ثانيا: تغير وضع الطاقة العالمي، إذ تحولت الولايات المتحدة من مستورد للنفط إلى مصدر له بعد ثورة النفط الصخرى؛ ثالثا، تغير هيكل دول الشرق الأوسط بشكل كبير بعد حرب العراق التي شنتها الولايات المتحدة عام 2003 وما صاحب ذلك من تزايد النزعة الطائفية في البلدان العربية.
وأضاف هوا أنه في ظل هذه التغيرات الكبيرة، تقف بلدان الشرق الأوسط عند مفترق طرق، وإن لم تستطع النخبة السياسية العربية إيجاد طريق نمو يتلائم مع الظروف الوطنية لبلادهم، يخشى أن تظل الدول العربية تكابد العناء خلال هذا التحول لفترة من الزمن.
وثمة توافق بين الخبراء الصينيين في أن هذه الجولة من التحول السياسي بالعالم العربي لا تحدث فقط على خلفية عدم تلبية تطلعات ومطالب الشعوب العربية خلال السنوات التي سبقت "الربيع العربي"، وإنما تجرى في ظل تغيرات كبيرة تشهدها القوى الجيوسياسية بالمنطقة، ولكن ثمة تقدم واضح وقوة لا يستهان بها يمكن تؤثر تأثيرا كبيرا في هذا التحول السياسي مستقبلا ، ألا وهي يقظة وعي الشباب بالحقوق المدنية.
-- تأثير تصارع الدول الكبرى على التحول بالمنطقة
ويشير الخبراء الصينيون إلى أن الحقائق تكشف بجلاء أن الاضطرابات التي يموج بها الشرق الأوسط ليست سوى جزء من تغييرات تطال هيكل العالم الذي يتحول من آحادي القطب إلى متعدد الأقطاب في ظل انخفاض تأثير ونفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وفي هذا الصدد، ذكر لياو باى تشي، نائب رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بأكاديمية الصين للعلاقات الدولية المعاصرة، أن سياسة الولايات المتحدة في هذه الفترة تتحول من التدخل المباشر إلى سياسة الموازنة،فالشرق الأوسط لم يعد محور إستراتيجية الولايات المتحدة التي ستعتمد سياستها المستقبلية على حلفائها في المنطقة وسيظل تدخلها في شؤون الإقليم من خلف الستار.
واتفق لي دينغ شين، الباحث بالمركز الصيني للدراسات الدولية المعاصرة، مع لياو في الرأى قائلا إن الولايات المتحدة تريد تقييد دور القوى الناشئة من ناحية وتقليص الفضاء الإستراتيجي لمنافسها القديم (روسيا) من ناحية أخرى، كما تريد الإبقاء على تأثيرها ونفوذها فيما يتعلق بالقضايا الدولية الهامة بالشرق الأوسط مثل مكافحة الإرهاب. ولكن مع تراجع قوتها وتزايد ديونها، لا يمكن أن تضرب كل "هذه العصافير بحجر واحد"، لذلك قلصت الولايات المتحدة من إستراتيجيتها في الشرق الأوسط.
أما فيما يتعلق بروسيا، فقد ذكر لياو أن روسيا تتطلع من خلال التدخل في شؤون الشرق الأوسط إلى كسب ورقة مساومة في المفاوضات مع أوروبا والولايات المتحدة وبالتالي تحقق هدف تعديل علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ومن جانبه قال لي دينغ شين إن روسيا تنظر للوضع في سوريا باعتباره عاملا يمكن أن يسهم في تخفيف الضغوط التي تتعرض لها جراء خلافها مع أوروبا بشأن أوكرانيا، مضيفا أنه لا يعتقد أن اضطرابات الشرق الأوسط وارتفاع أسعار النفط يفيدان روسيا على المدى الطويل،لأنه سيصبح من الصعوبة بمكان تحمل عواقب التهديدات الإرهابية الناتجة عن الاضطرابات في المنطقة مقارنة بالنتائج التي سيتمخض عن انخفاض أسعار النفط، متوقعا ألا تتخذ روسيا جانب حليفها القديم إيران في الخلاف الإيراني- السعودي ولكنها قد تغتنم هذه الفرصة لتحسين العلاقات مع الدول العربية الأخرى.
أما أوروبا، فقال لياو باى تشي إنها سقطت ضحية الأوضاع في الشرق الأوسط رغم تدخلها في شؤون هذه المنطقة بشكل علني في بداية الاضطرابات حيث باتت الأشد تضررا منها في ضوء تزايد تدفق اللاجئين عليها وكثرة وقوع الإعتداءات الإرهابية فيها، لافتا إلى أن القارة العجوز لم يعد لديها الآن القدرة على التدخل رغم ما تضمره من نية في هذا الصدد.
وأضاف لي دينغ شين أن قوة التنافس الجيوسياسي في الشرق الأوسط أشد من قوة المكافحة المشتركة للإرهاب، إذ أدى تفاوت مصالح الدول الكبري في المنطقة إلى تشتيت تركيز القوى التي تكافح الجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش، مؤكدا أن الصين تدعو دوما إلى حل النزاعات عبر التسويات السياسية وتتطلع دوما إلى أن ينعم الشرق الأوسط بالأمن والاستقرار.
ويرى لياو إنه مع تعميق بكين لعلاقاتها مع الأقطار العربية، لا بد أن تضع الصين رؤية إستراتيجية شاملة تجاه الشرق الأوسط. وأن تولى الصين، على نحو مغاير للنهج الغربي الذي يتركز على تقسيم مناطق النفوذ واللجوء للقوة العسكرية، تولى اهتماما بالشق الاقتصادي من خلال تطبيق مبادرة "الحزام والطريق" لتحقيق "حلم التنمية المشتركة" للجميع.