وصلت مفاوضات استئناف الاتفاق النووي الإيراني مرة أخرى إلى الأمتار الأخيرة. وقد حظيت نسخة الاتحاد الأوروبي من النص النهائي للاتفاقية بتفاعل إيجابي من الجانب الإيراني. وباتت أطراف التفاوض على بعد خطوة من التوصل إلى الاتفاق النهائي. وسيكون الموقف الأمريكي العامل الذي سيحدد المصير النهائي لماراثون المفاوضات الذي ابتدأ منذ 16 شهرا. وفي هذا الصدد، كتب دينغ لونغ، الأستاذ في معهد الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، مقالا في صحيفة "غلوبال تايمز" التابعة لصحيفة الشعب اليومية، قال فيه أنه في الوقت الذي تستمر قضية الملف النووي الإيراني دون حل منذ 20 عاما، فإن المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط يشهد تغيرات هائلة بسببه.
على الصعيد الدولي، يكمن جوهر قضية الملف النووي الإيراني في العلاقة العدائية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى الصعيد الإقليمي، يعبّر الملف النووي الإيراني عن مركز المنافسة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وخلفه تكمن المعضلة الأمنية التي يسببها الصعود الإيراني لمنافسيها في الشرق الأوسط. في الأثناء، عملت الولايات المتحدة على استخدام الملف النووي الإيراني لتشكيل تحالف إقليمي يهدف إلى احتواء إيران، بينما ردت إيران بتوسيع قوتها العسكرية وبناء وكلاء إقليميين، وتحول ذلك إلى منطق دينامية التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط منذ حرب العراق.
وتعد الولايات المتحدة مصدر التقلبات والمنعطفات التي يشهدها الملف النووي الإيراني. حيث اتخذت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ أوباما مواقف متقلبة بشأن القضية الإيرانية، مما ألقى بظلاله بشكل مباشر على كيفية استجابة حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط لـ "التهديد الإيراني"، وأفرز إلى مزيجا متباين من القوى الإقليمية. ولجأت بعض دول الشرق الأوسط إلى المراوحة بين الليونة والحدّية في التعامل مع إيران وتحقيق التوازن الإقليمي.
ويرى دينغ لونغ أن "التهديد الإيراني" الذي تتصوره دول الخليج لا يختزل في القضية النووية فحسب، وإنما يشمل سياسات إيران الإقليمية أيضًا. إذ يتهمون إيران بمحاربة دول الخليج من خلال وكلاء شيعة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. فيما تورطت بعض دول الخليج، على غرار المملكة العربية السعودية في مستنقع حرب اليمن، ووصل التهديد حتى إلى أهداف استراتيجية محلية، تعرضت لهجمات منظمة، حُمّلت فيها المسؤولية إلى إيران.
وقد تبنت دول الخليج في الماضي استراتيجية "التوازن الصعب" لمواجهة إيران، ودعمت الحكومات الأمريكية في تسليط "أقصى الضغوط" على إيران. لكن بعد تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، بادرت دول الخليج إلى تهدئة الاحتقان مع إيران. وبالنسبة لدول الخليج، فإن الاتفاقية النووية الإيرانية رغم أنها ليست الحل الأفضل لتقييد إيران، لكنها ليست الأسوأ، وعلى الأقل يمكنها كبح الأنشطة النووية الإيرانية. ومنذ أكثر من عام، شهدت العلاقات بين دول الخليج وإيران تحوّلا واضحا. حيث أعادت الكويت علاقاتها الدبلوماسية بالكامل مع إيران، وعينت الإمارات مؤخراً سفيراً لها في طهران. كما دخلت السعودية في مفاوضات لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة عراقية.
وتأتي إسرائيل في "طليعة" الدول المعادية لإيران في المنطقة، لكن سياسة إسرائيل المتشددة تجاه إيران لم تجلب لها المزيد من الأمن. ولا ترغب إسرائيل حاليا، في انتهاز الفرصة الأخيرة للضغط على الولايات المتحدة لتأخير المفاوضات ومنع إبرام الاتفاق النووي الإيراني. في الأثناء، تنتهج إسرائيل سياسة "التنصل من المسؤولية" في الملف الإيراني، بتحريض الولايات المتحدة على تولي زمام المبادرة، في حين أنها ليست مستعدة للمواجهة العسكرية مع إيران.
ويمكن القول إن الموجة الجديدة من تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والدول العربية تمثل أعمق تغيير جيوسياسي في الشرق الأوسط منذ منتصف القرن الماضي. ويعتبر الموقف المشترك من إيران أحد العوامل المهمة لدفع حركة التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل. ومع ذلك، يبقى في الوقت الحالي من غير الممكن بناء تحالف مناهض لإيران على هذا الأساس.
ظاهريًا، وبمساعدة من الولايات المتحدة، قامت إسرائيل بتطبيع علاقاتها مع خمس دول عربية بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، لكن هذه الدول تبقى لديها تصورات مختلفة لـ "التهديد الإيراني". وتطبيعها لعلاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل يأتي من دوافع مختلفة، ولا يمكن اختزاله في معاداة إيران. في المقابل، تريد إسرائيل توسيع انتصاراتها على أساس موجة التطبيع وإقامة "نسخة شرق أوسطية من الناتو" تحت قيادة الولايات المتحدة، لكنها لم تتلق تجاوبا من الدول العربية.
ويرى دينغ لونغ ان الصعود النسبي لمكانة إيران أحد أهم أسباب التغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. فيما توظف القضية النووية الإيرانية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط كمفتاح لسياسات احتواء إيران، مما يثير سلسلة من النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، ويجبر دول المنطقة على الدخول في صراعات لا نهاية لها، والوقوع ضحية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مما أدى إلى تآكل الثقة المتبادلة بين الجانبين.
ويمثل استئناف الاتفاق النووي الإيراني في أقرب وقت ممكن خطوة أساسية لتحقيق أمن الخليج والشرق الأوسط. لكن جوهر القضية النووية الإيرانية يبقى العلاقة العدائية بين الولايات المتحدة وإيران. مما يستوجب من الولايات المتحدة التخلي عن سياستها العدائية تجاه إيران للقضاء على الأسباب الجذرية للصراع في الشرق الأوسط. ويجب على دول المنطقة أيضًا أن تنتهز هذه الفرصة لتقليل تصورات التهديد المتبادل، وإعادة بناء الثقة المتبادلة، والسعي إلى إنشاء آلية أمنية إقليمية تهتم بالشواغل الأمنية المشروعة لجميع دول الشرق الأوسط.