د. فايزة كاب، خبيرة في الشؤون الصينية والعلاقات الصينية ـ الدولية
مرت العلاقات الصينية ـ الامريكية منذ عقود بحالات من الحرارة متفاوتة الدرجة والخطورة، لكن اشتد وهجُها بعد تولي دونالد ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، حيث تصاعدت التوترات بين البلدين على مدى ثلاث سنوات الأخيرة، لتشهد انفجارا واضحا للعيان بعد تفشي جائحة كوفيد -19، الذي اتهمت إدارة ترامب الصين بفشل السيطرة عليه، فضلا عن اتهاماتها بالتجسس وسرقة الملكية الفكرية وانتهاكات حقوق الانسان في منطقة شينجيانغ في أقصى غرب الصين، والتدخل في شؤون هونغ كونغ، وبحر الصين الجنوبي، ومحاربة هواوي.
لقد ترك هذا الوهج في العلاقات بين الصين وامريكا قراءة مختلفة لوصف طبيعة هذه الأزمة، واتفق معظم المهتمين بشأن العلاقات بين البلدين على أن هذه الأزمة هي تجارية، وأن البلدين يتجهان نحو حرب باردة جديدة. ولكن على عكس اللحظات السابقة من التوترات المتزايدة بين الصين وأمريكا لم نقرأ خبرا مفاده أن ترامب يهدد بفرض تعريفات إضافية على السلع الصينية أو اتخاذ خطوات أخرى لمعاقبة الشركات التي تصدر منتجاتها الى أمريكا، أو تمزيق الاتفاقية الاقتصادية والتجارية الاولى تم توقيعها بين البلدين في يناير هذا العام بعد سنوات من المفاوضات، وبموجب الاتفاقية يتطلب من الصين شراء 200 مليار دولار إضافية من السلع الأمريكية بحلول نهاية العام المقبل ، بما في ذلك بعض السلع الزراعية مثل فول الصويا ولحم الخنزير والذرة من الدول الزراعية. وإنما قررت أمريكا إغلاق القنصلية الصينية في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية متهمة اياها بالتجسس الاقتصادي، مما دفع الصين إلى العمل بالمثل والأمر بتعليق عمل القنصلية الأمريكية في تشنغدو.
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز " مؤخرا مقالا تحليليا حول الازمة الصينية الامريكية تحت عنوان " لماذا يمكن أن تظل الاتفاقية التجارية بين الصين وأمريكا مستقرة مع تصاعد التوترات بين البلدين؟”، ذكرت فيه:" توفر الاتفاقية التجارية نقطة استقرار نادرة مع توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بشأن هونغ كونغ، وفيروس كورونا الجديد، واتهامات التجسس، ويبدو أن الاتفاقية التجارية التي وقع عليها البلدان في يناير هي الجزء الأكثر ديمومة من العلاقات بين الصين وأمريكا." مضيفة:" اصبحت التجارة، التي كانت منذ فترة طويلة الجزء الأكثر إثارة للجدل في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، فجأة نقطة استقرار مدهشة."
يعتقد بعض المحللين أن الحرب التجارية الصينية ـ الأمريكية تنبع من استياء الولايات المتحدة من العجز التجاري الصيني، وقد أصبحت وجهة النظر هذه ذات مرة وجهة النظر السائدة. ومع ذلك، فإن أي شخص لديه القليل من الأبحاث حول اقتصاد الدولار سيعلم أن هذا الرأي غير منطقي تمامًا. حيث أن الاقتصاد الامريكي في تفكك مستمر منذ نهاية التسعينات، فالعجز التجاري مع دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وجنوب شرق آسيا آخذ في الارتفاع، ولم نسمع أمريكا تسعى الى كسر هذا العجز، لأنها أكثر المستفيدين من ذلك، حيث أنها الطريقة الأساسية لاستثمار الدولار الأمريكي من خلال عجز الواردات الضخمة للولايات المتحدة.
طالما تحاول الحكومة الصينية إبقاء الأمور التجارية منفصلة عن الاحتكاكات الأخرى في علاقاتها الثنائية، عكس أمريكا التي تعتبر الامور التجارية عصى في نزاعاتها مع الدول الاخرى، لكن هذه المرة، يبدو أن أمريكا تعتقد أنها ستخسر من تمزيق الاتفاقية أكثر مما ستكسبه. وذكر المقال التحليلي ذاته، أنه مع نجاح الصين في التخلص من كوفيد -19، وعودة الحياة الاقتصادية، يبدو أن مشترياتها من المنتجات الامريكية ترتفع، وتظهر بيانات الادارة العامة للجمارك الصينية أن واردات الأخيرة من أمريكا ارتفعت بنسبة 15.1 في المائة في يونيو مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي. وقد اشار ترامب إلى المشتريات القياسية من الذرة التي قامت بها الصين. لكنه أضاف أن "الصفقة التجارية تعني لي الآن أقل مما كانت عليه عندما وقعت."
في الواقع، التناقضات الداخلية في أمريكا كبيرة للغاية، ودخول ترامب هذه الفترة مرحلة حاسمة من الانتخابات الرئاسية الامريكية لفترة ولاية ثانية، جعل السيطرة على شريان الحياة الاقتصادي الصيني غير كافي لأمريكا، فالحجم الاقتصادي للصين كبير جدا وليس من السهل احتوائه، مما سيجعل الجولة الحالية من التناقضات الصينية الأمريكية ستتجاوز الخيال من حيث العمق والاتساع، وقد تكون الحرب التجارية مجرد بداية، وليست جوهر النزاع، لأن ما يقلق هؤلاء السياسيين الأمريكيين ليس صعود الصين وقوتها الاقتصادية، وانما صعود الصين تحت حكم الحزب الشيوعي الصيني.