بكين 29 مايو 2020 ( شينخوا ) مع حلول الـ30 من مايو الجاري، تحتفل الصين ومصر، وهما بلدان ذوا حضارتين عريقتين، بالذكرى الـ64 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما. ورغم أن العلاقات التاريخية بين البلدين تمتد إلى آلاف السنين عبر طريق الحرير القديم، إلا أنها لم تتبلور في شكل علاقات دبلوماسية رسمية إلا قبل ستين عاما ونيف. وقد كانت ولا تزال علاقات مشرقة ذات منحى تصاعدي يتجاوز كل العوائق، لتضع حاليا أسس مرحلة جديدة للارتقاء بها إلى أعلى مستوى من العلاقات يقيمها البلدان مع العالم الخارجي.
وخلال مقابلة حصرية أجرتها وكالة أنباء شينخوا، قال السفير المصري لدى بكين د. محمد البدري، إن هذا المنحى التصاعدي للعلاقات الثنائية بين البلدين يمثل مسارا طبيعيا ومتوقعا استنادا إلى العديد من الأسس والركائز التي تجسدت على مر التاريخ، حيث تزداد متانة يوما بعد يوم، فضلا عن الكثير من القواسم المشتركة بين البلدين وعلى رأسها النقاط الثلاث التالية:
أولا، استنادا إلى مصطلحات عالم الجغرافيا البريطاني هالفورد ماكيندر، أحد مؤسسي علم الجغرافيا السياسية، فإن البلدين مثّلا عبر الزمن محورا جيوسياسيا في عالمهما. ولكونهما بلدين ذوي حضارتين مجيدتين، فقد مثّلا ركيزة لمنطقتيهما من خلال احتضانهما لأكبر عدد من السكان وامتلاك كل منهما لقوة سياسية ومؤسسات ثقافية ومنظمات اجتماعية وجيش قوي.
ثانيا، تشاطر البلدان واقعا تاريخيا مشتركا، حيث كان يتعين عليهما النضال لنيل استقلالهما وبناء دولتيهما خلال القرن الـ20 الذي اتسم بالتقلبات والاضطرابات الشديدة.
ثالثا، يحرص البلدان تماما على رسم سياساتهما الخارجية وفقا لمبادئ القانون الدولي واحترام الآخرين. ولهذا السبب تتمتع مصر والصين برؤية متشابهة للغاية، إن لم تكن متطابقة، حيال القضايا ذات الأهمية الخاصة بالنسبة لكليهما.
وحول التطور التاريخي للعلاقات الراهنة بين الصين ومصر، قال السفير المصري إن العلاقات الثنائية بين البلدين تطورت على مراحل، منذ اللقاء الشهير بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورئيس مجلس الدولة الصيني الراحل تشو إن لاي في عام 1955، حيث اتفقا على إقامة علاقات دبلوماسية رسمية رأت النور في عام 1956، مشيرا إلى أن مصر كانت أول دولة عربية وافريقية وشرق أوسطية تقيم سفارة لها في بكين رغم الضغوط المتصاعدة في ذلك الوقت، وبينما كانت مصر تقود حركات التحرر الوطني من الاستعمار ونيل حق تقرير المصير، كانت الصين تؤسس دولتها الحديثة.
وأضاف د. البدري أنه علاوة على ذلك، دعمت مصر عضوية جمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة باعتقاد راسخ منها بأن الصين هي الممثل الشرعي للشعب الصيني، موضحا أنه ومنذ ذلك الحين، تؤمن مصر ولا تزال تتمسك بقوة بمبدأ "الصين الواحدة". وبالمثل، فإن الصين كذلك ساندت مصر في كل المحن التي واجهتها خلال العقدين التاليين، وهو ما مهد الطريق أمام علاقة مزدهرة ترتكز على الاحترام والدعم المتبادلين.
وأوضح د. البدري أن التطور في العلاقات الثنائية بين البلدين انعكس في قيام الرئيس السيسي بزيارة الصين ست مرات منذ عام 2014، وأثمر كذلك عن زيارة تاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى مصر عام 2016، فضلا عن إطلاق حوار استراتيجي مشترك على مستوى وزيري خارجية البلدين في عام 2014، وهو ما أفسح المجال لقرار مشترك بمواصلة الارتقاء بالشراكة الاستراتيجية الثنائية الشاملة لتواكب العصر الجديد المرتقب، وذلك خلال الزيارة التي قام بها وانغ يي عضو مجلس الدولة، وزير الخارجية الصيني، إلى مصر في يناير عام 2020 .
ولدى سؤاله عن موقف مصر من مبادرة الحزام والطريق، قال د. البدري إن مصر هي إحدى الدول الداعمة لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013، مشيرا إلى أن هذا الدعم يأتي انطلاقا من قناعة القاهرة بأنها مبادرة عالمية فريدة على الطاولة الدولية، سيصوغها الشركاء بأنفسهم للاستفادة مما تطرحه العولمة والتعددية، واستنادا إلى مبادئ النفع والاحترام المتبادلين.
وأردف د. البدري أنه لا يمكن لمصر إغفال مثل هذه المبادرة الكبرى في الوقت الذي يُنظر فيه على نطاق واسع للدولة المصرية بأنها البوابة الرئيسية لافريقيا والشرق الأوسط بامتلاكها لأحد أهم الممرات المائية في العالم، ممثلة في قناة السويس، ولا سيما بعد شق قناة السويس الجديدة لتوسيع قدرة هذا الممر المائي، فضلا عن مشروع محور تنمية قناة السويس والفرص التي يجلبها للعالم.
واستطرد قائلا إن مصر عازمة على العمل مع بكين لتجسيد هذه المبادرة العالمية، مشيرا إلى أن مصر، علاوة على ذلك، تعد عضوا مؤسسا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وهو بنك تنموي متعدد الأطراف أطلقته الصين، وشاركت في تأسيسه العديد من البلدان الأخرى، بهدف دفع التنمية المستدامة وسد الفجوة التمويلية لإقامة مشاريع البنية التحتية في الدول النامية ولا سيما في آسيا.
وحول التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين، قال السفير المصري إن الاستثمار الصيني نما في مصر، بينما ازدادت التجارة الثنائية بشكل كبير على مدار الأعوام الماضية، موضحا أن حجم التجارة الخارجية بين البلدين ارتفع من 11 مليار دولار أمريكي ليصل إلى 13 مليار دولار في عام 2019، فيما ازداد حجم الاستثمار الصيني في مجالات التصنيع والبنية التحتية في مصر بشكل كبير أيضا، إذ يهدف التعاون بين البلدين في الواقع إلى مواصلة تعزيز الشراكة والنفع المتبادلين بين الجانبين.
وأوضح د. البدري أن الشركات الصينية عززت نشاطها في مصر نتيجة لبرنامج الإصلاح الهيكلي الاقتصادي الشامل الذي تطبقه مصر حاليا، مشيرا إلى أن هذا الإصلاح قد أفضى إلى فوائد عظيمة تمثلت في تحرير الاقتصاد ما أدى إلى خلق بيئة أعمال جاذبة استقطبت استثمارات أجنبية ودفعت النمو الاقتصادي للبلاد.
ولفت السفير المصري إلى أن هذا البرنامج الناجح حظي بإشادة العديد من المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، بينما قامت الكثير من الشركات الصينية الشهيرة العاملة في مجالات تشمل المنسوجات والإلكترونيات والطاقة والسيارات والأجهزة المنزلية، بزيادة استثماراتها في مصر، وهو ما يعد بمثابة شهادة على النجاح المتواصل لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري.
ولدى استعراضه أمثلة نموذجية للتعاون الثنائي بين البلدين، أشار د. البدري إلى المرحلة الأولى من منطقة السويس للتعاون الاقتصادي والتجاري بين مصر والصين (تيدا)، التي تضم 84 شركة بينها 42 شركة صناعية، منوها إلى أن تلك المرحلة استقطبت استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة منذ تأسيسها، فيما تعكف المنطقة حاليا على تطوير المرحلة الثانية من المشروع.
وتابع د. البدري أنه بالإضافة إلى ذلك، تشارك الشركة الصينية المحدودة لهندسة الإنشاءات في واحد من أهم المشاريع الوطنية الرائدة في مصر، من خلال تطوير حي الأعمال في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، مردفا أنه بالتوازي مع ذلك، هناك أيضا تعاون مالي ونقدي متنام بين البلدين، تمثل في قيام البنك المركزي المصري وبنك الشعب الصيني بتوقيع اتفاقية ثنائية لمقايضة عملتي البلدين في عام 2016 بقيمة بلغت 18 مليار دولار أمريكي لتحفيز التعاون الثنائي في هذا المجال.
وفي معرض حديثه عن التعاون السياحي بين البلدين، قال السفير المصري إن عدد السياح الصينيين القادمين إلى مصر ارتفع بشكل صاروخي ليصل إلى 450 ألف سائح في عام 2018، وإنه كانت هناك آفاق جديدة يتم بلورتها لمعالجة العجز في ميزاني التجارة والخدمات بين البلدين، حتى ظهرت جائحة فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19) ، منوها إلى أن التعاون العسكري بين البلدين أيضا في ذروته ويشهد آفاقا متنامية كل عام.
ولدى رده على سؤال بشأن التعاون بين الصين ومصر لمكافحة جائحة كوفيد-19، قال د. البدري إن التعاون بين البلدين لمكافحة هذه الجائحة يمثل مرآة حقيقية لعلاقتهما، موضحا أن مصر سارعت لدعم الصين في البداية سياسيا وماديا من خلال إرسال مساعدات طبية، وكذا تكليف الرئيس السيسي وزيرة الصحة المصرية بزيارة بكين وبصحبتها المزيد من المساعدات الطبية كدليل على الدعم خلال الأزمة، وإصداره أوامر بإضاءة العديد من الآثار التاريخية المصرية بألوان العلم الصيني في إشارة إلى التضامن مع الشعب الصيني والقيادة الصينية في هذه المعركة.
وأضاف أنه مع انخراط مصر في مكافحة الجائحة ، قدمت الصين لمصر ثلاث شحنات من المساعدات حتى الآن، وفتحت اتصالا لتبادل خبراتها مع الجانب المصري.
واستطرد السفير المصري أن العلاقة بين مصر والصين ما برحت تمثل نموذجا يحتذى به، فضلا عن تمتعها بهامش كبير للغاية لتعظيم إمكاناتها، مضيفا أنها علاقة متجذرة في أطناب التاريخ عززتها العولمة، ودعمتها قبل كل شيء، إرادة مشتركة لترسيخها.
واختتم د. البدري حديثه مستشهدا بمقولة الفيلسوف الألماني الشهير آرثر شوبنهاور: " أن تستطيع إصابة هدف يراه الجميع فهذه براعة .. أما أن تصيب هدفا لا يراه الجميع فهذه عبقرية " ، مؤكدا أن البلدين لديهما قادة ذوو بصيرة سيبلغون الأهداف التي لا يمكن لكثيرين رؤيتها الآن من أجل تحقيق مصالح شعبيهما.