المهندس محمد السلامي
أُقيم في الصين منذ ما يزيد عن 25 عاما ، وقد مرت على الصين خلال هذه الفترة الكثير من الكوارث والتحديات، لكن اياً منها لم يسبق له ان تسبب في نشر الخوف والذعر مثلما فعل فيروس كورونا الجديد، إنّه بمثابة كابوس مرعب هجم على الجنس البشري على حين غرّة. واتخذ من الصين محطته الرئيسية الاولى. حيث شمّرت الصين عن سواعدها منذ اللحظة الاولى التي أدركت خطره الكبير. واستنفرت قواها المادية والعلمية والتقنية، وأعلنت حالة التأهب القصوى في مواجهة هذا العدو البيولوجي الشرس. لكن رغم ذلك يمكن القول، إن البشرية محظوظة بحق أن يكون خط دفاعها الأول متمثلا في الصين الأكثر جاهزية والاكثر عتاداً وعدّة.
ما بين عشية وضحاها تحولت الصين بمدنها الكبرى وولاياتها ومحافظاتها وقراها الى جبهة واحدة أمام العدو الذي يجيد فن التسلل والإنتشار بهدوء وسرعة، وتحولت كل المرافق الصحية ومحطات التلفزه و مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي والمطارات والمحطات والطرقات والمجمعات السكنية واقسام الشرطه ومراكز الابحاث والدوائر الحكومية المختلفه الى خلية واحدة تعمل بلا كلل او ملل على مدار الساعه لتفرض اكبر عملية حجر صحي في تاريخ البشرية من اجل السيطرة على انتشار الوباء الذي ما زال بلا دواء، وتعالج من أصيبوا بهذا الفيروس الماكر.
ومن خلال مراقبتي لما قامت به الصين واصداء ذلك داخليا وخارجيا، استخلصت عدة دروس أوردها فيما يلي
الدرس الاول:
ما من شك بأن الصين بعملها هذا العظيم في مواجهة الوباء وكبح انتشاره تسدي للبشرية معروفاً لا يمكن أن يُنسى عبر الازمان والعصور. انها بمثابة السد المنيع امام فيضان هذا الوباء الجارف الذي لا يرحم، ويا ترى كم كانت ستكون الاصابات والخسائر اذا لم تكن الصين هي محطته الاولى وكانت دولة اخرى لا تملك امكانات الصين ولا تملك مؤسسات حكومية كالتي تتمتع بها الصين؟
الدرس الثاني:
قبل اكثر من عام ونصف اطلق مؤسس شركة ميكروسوفت، بيل جيتس، تحذيرا هاما للعالم بخصوص هجوم فيروس خطير على البشرية يتسبب في موت ملايين البشر، ودعا دول العالم الى الاستعداد الجيد لمثل هذا النوع من التحدي وأخذ الحيطة والحذر، وبذل المزيد من الجهود والأبحاث في التصدي له.
والحقيقة الماثلة امامنا تقول انه كلما تقدم الزمن بالبشرية وارتقت العلوم والتكنولوجيا، كلما ظهرت فيروسات جديده اكثر ذكاء وخطورة لم تكن موجودة من قبل كفيروس الايدز وايبولا وسارس وكورونا، وغيرها من الفيروسات. وبالتأكيد فان فيروس كورونا الجديد لن يكون اخر هذه الفيروسات.
ان ذلك يظهر عدم جاهزية العالم وعجزه في مواجهة هذه الفيروسات الأمر الذي يتطلب من دول العالم وبالاخص المتقدمه تخصيص جزء بسيط من موازناتها لدعم البحوث الخاصه بمواجهة هذه الفيروسات والاوبئة التي تهدد البشرية.
الدرس الثالث:
بالمقارنة مع موجة الاصابة بفيروس سارس عام 2003، فان مقدار الخوف والذعر الذي ٱثاره فيروس كورونا الجديد اكبر بكثير من مقدار الذعر الذي اثاره فيروس سارس. و على الرغم من تدني نسبة الوفاه الناتجه عن الاصابة بفيروس كورونا الجديد كما تشير الاحصاءات مقارنة بنسبة الوفيات الناتجه عن فيروس سارس. فإن السبب الرئيسي لذلك قد يكون ناتجا عن وسائل التواصل الاجتماعي المختلفه والتي لم تكن موجودة بذات القدر والكثافة والتطور والسرعه والكفاءة ايام انتشار فيروس سارس، حيث ساهمت هذه الوسائل الى حد كبير في نشر الشائعات الكاذبة بسرعة كبيرة في الصين والعالم، إلا انها من ناحية أخرى أسهمت في اظهار التعاطف العالمي الكبير مع الصين في محنتها ودعمها من جميع شعوب العالم، حيث بدا العالم وكأنه قرية واحدة.
الدرس الرابع:
لقد كانت اول اصابة تم اكتشافها بهذا الفيروس في بداية شهر ديسمبر 2019. وبسبب إهمال بعض الموظفين، تأخر نشر المعلومات الخاصة بانتشار الوباء لأكثر من شهر، الأمر الذي أدى الى انتشار الوباء بصورة واسعة وسريعه في مدينة ووهان ومنها الى ارجاء الصين المختلفه. مما جعل الصين تدفع ثمناً باهظا في سبيل كبح انتشار الوباء وتداعياته على البلاد في جميع المناحي الاقتصادية والاجتماعية والصحية والإنتاجية والسياحية والمواصلات والخدمات مما يحتم على الصين اتخاذ اجراءات وتدابير رادعة لمعالجة هذه الأسباب.
الدرس الخامس:
عند استشعار الصين لحجم وخطورة المشكلة قامت الحكومة الصينية باجراءات صارمة جدا لتنفيذ اكبر واصعب عملية حجر صحي في عموم الصين وفي تاريخ البشرية عموما. حيث تفاعل معها الشعب الصيني تفاعلا منقطع النظير، وأظهر مستوى عال جدا من الانضباط والالتزام بتعليمات الحكومات المحلية بشكل أبهر العالم، ويجدر بشعوب العالم ان تتعلم من حكومة الصين وقوة فاعليتها ومدى الانضباط والالتزام العالي عند الشعب الصيني العظيم.
الدرس السادس:
لا يخفى على أحد ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع قضايا كثيرة في دول العالم الثالث كالديموقراطية ومكافحة الارهاب وغيرها من القضايا. لكن ان تصل بشاعة تلك الازدواجية في التعامل مع قضايا انسانية من الطراز الاول كإنتشار الوباء واستغلال ذلك لنشر الذعر في انحاء العالم من أجل عزل الصين وضرب اقتصادها. واستغلال هذا الظرف الإنساني لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه الحرب التجارية التي اعلنتها الولايات المتحده ضد الصين، فإن ذلك يعد سقوطا اخلاقيا مدويا، واستغلالا بشعاً ترفضه الإنسانية.
الدرس السابع :
العبرة من وفاة الطبيب الصيني لي مينغ ليانغ بعد اصابته بالفيروس بعد ان كان من أوائل من حذروا من سهولة العدوى بهذا الفيروس. حيث طلب من الاطباء والعاملين عبر وسائل التواصل الاجتماعي اخذ الحيطة والحذر عند التعامل مع المرضى لتجنب العدوى، وعوقب من قبل السلطات المحلية على ذلك بتهمة نشر الشائعات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. لذا، إن خطأ تنفيذيا لموظفين محليين من الدرجات الدنيا قد يؤدي الى عواقب وخيمة جدا، وقد احسنت الحكومة المركزية بتكليف فريق تحقيق في القضية التي أضحت قضية رأي عام. وعليه فإن معالجة هذه القضية قد يؤدي الى تشريع هام او تقييد صلاحيات بعض الأجهزة التنفيذية لتمنع حدوث ذلك مستقبلا..
الدرس الثامن:
ان الصينيين حكومة وشعبا معروفون في العالم بأنهم مجتهدون يعملون كثيرا ويتحدثون قليلا. يواجهون المصاعب والتحديات بهدوء دون ضجيج . ويحلون مشاكلهم بطرق منهجية وابحاث علمية، ليسوا متعودين على توجيه اصابع اللوم لأحد. ولا يؤمنون كثيرا بنظرية المؤامرة ، يقاومون بصمت دون عويل او نياح، ويرصّون صفوفهم بكل ثقة ودقة في معركة عنيفة أمام عدو شرس متربص. وهذا أمر جدير بالثناء والاقتداء.
الدرس التاسع:
بالرغم من الخسائر الكبيرة التي ستنتج عن انتشار هذا الوباء وتداعياته على الاقتصاد داخليا وخارجيا، فإن الصين بالتأكيد ستخرج من هذه المحنة اكثر قوة واشد صلابة وأصعب مراساً. وكما قال المثل العربي : ربّ ضارة نافعة ، فها نحن اليوم نرى كيف اصطفّ العلماء والباحثين صفاً واحدا امام هذا الفيروس لاستخراج مصل ودواء. وبالتأكيد فان لذلك معنى كبير جدا على المستوى البعيد يكمن في تحقيق طفرة علمية في هذا المجال قريبا. من ناحية أخرى فقد كانت هذه المحنة والتحدي الكبير سببا لبروز تقنيات وبرمجيات جديدة مبتكرة كطائرات المراقبة والرجل الآلي في المستشفيات وبرامج تحديد وتشخيص المصابين في الجوار. وبرامج أخرى تساعد الناس في الحجر الصحي، وتحل الكثير من المعضلات التي تواجه الدوله في كبح جماح الوباء.
الدرس العاشر :
صحيح جدا ان امكانات الحكومة الصينية تعد هي الاقوى في العالم. غير ان ذلك لا يعني الاستغناء عن دور النقابات والجاليات والمنظمات المدنية غير الحكومية في داخل الصين وخارجها. وتمكينها من القيام بواجبها والتبرع بالمستلزمات الطبية، والتطوع الذاتي لمكافحة الوباء، والتنسيق مع الجهود الحكومية، وقد رأينا رحلات جوية تعود محملة بتبرعات المغتربين الصينيين من مستلزمات طبية من جميع دول العالم. فحري بالصين ودول العالم ان تطلق لمنظمات المجتمع المدني العنان للاضطلاع بدورها ومسئولياتها تجاه بلدها في السراء والضراء.