بكين أول أكتوبر 2019 (شينخوا) لطالما كانت التنمية الاقتصادية السليمة والمستدامة تحدياً صعب المنال لجميع دول العالم على قدم المساواة، متقدمة كانت أو نامية. ولطالما كان الحفاظ على أسس متينة للاقتصاد وفتح آفاق أوسع له أمراً بالغ الصعوبة، لا سيما في ظل المشهد الدولي سياسياً واقتصادياً، وخاصة في العقد الأخير، حيث تزايد تشابك المصالح وارتفاع سقف الطموحات لحياة أفضل في ظل الثورات التكنولوجية المتتالية وغيرها من العوامل.
وفي ظل استنزاف النظريات والتطبيقات الاقتصادية لضمان دوران عجلة الاقتصاد نحو التطور السلس، يصطدم صُنّاع القرار الاقتصادي في مرحلة معينة من التنمية الاقتصادية بعقبات شتّى، لعل أبرزها خلق محركات اقتصادية جديدة ونوعية رديفة لنظيرتها التقليدية، لتتضافر جهود جميع المحركات مع بعضها البعض لضخ زخم أكبر وأكثر حيوية ليواصل الاقتصاد مساره التنموي السليم.
وهنا؛ يبرز دور الإبداع والابتكار كأحد أبرز المحركات الاقتصادية الحديثة، فعالم اليوم لا ينقصه المال ولا الموارد والمعدات، لكن إبداع أفكار جديدة بات أولوية ومنهجاً لكثير من الدول الساعية للنهوض بواقعها الاقتصادي والتنموي بشكل أكبر، وبات التهافت على المبدعين والمبتكرين والمواهب اتجاهاً جديداً رائجاً للتنمية الاقتصادية الحديثة.
والصين بدورها ليست استثناء ... فهي إحدى رواد المعجزات الاقتصادية في العصر الحديث، حيث تعتبر نتائج سياسة الإصلاح والانفتاح دليلاً عملياً وواقعياً على تلك المعجزات التي يصعب حصرها في مجرد قائمة وكلمات.
وفي هذا السياق، كان من اللافت إطلاق بلدية بكين مؤخراً لتجربة "اقتصاد الليل" لضخ حيوية جديدة في اقتصاد المدينة وخلق محرك اقتصادي جديد، ودراسة نتائج هذه التجربة واستخلاص أفضل الحلول التطويرية والإبداعية المستدامة لها، أملاً في تطبيقها وتعميمها على مستويات أوسع.
ويشير مصطلح "اقتصاد الليل" إلى أنشطة الأعمال التي تجري في الفترة ما بين السادسة مساء والسادسة صباحا في قطاع الخدمات.
فمع مدينة كبيرة بحجم بكين التي تحتضن أكثر من عشرين مليون نسمة، يرتفع حجم الاستهلاك والخدمات بشكل كبير، وتتزايد الضغوطات والأعباء لضمان تطور اقتصاد المدينة بشكل سليم وسلس ومستدام وصديق للبيئة، دون اللجوء إلى زيادة استنزاف الموارد سواء الطبيعية أو البشرية.
ومن أجل تلبية جميع التطلعات ومعالجة التحديات، لاحظت حكومة المدينة مُستندة إلى أرقام وإحصاءات ودراسات علمية دقيقة، ارتفاع معدلات الاستهلاك والنشاط الاقتصادي مع ساعات المساء الأولى وحتى وقت متأخر من الليل، فقررت تجربة "اقتصاد الليل" عملياً في مناطق معينة من خلال عدة إجراءات وتدابير معنية.
أولى الخطوات تمثلت بتمديد فترات تشغيل جزء من مواصلاتها العامة أيام الجمعة والسبت من كل أسبوع، حيث يعمل خطّا المترو رقم 1 ورقم 2 لمدة ساعة إضافية، وساعة ونصف الساعة إضافية على الترتيب، ليغادر آخر قطارين الخطين المذكورين بعد الساعة 12:30 من بعد منتصف الليل، فضلا عن تعزيز خدمة سيارات الأجرة.
وكنتيجة أولية... وخلال عطلة عيد العمال التي امتدت أربعة أيام في شهر مايو المنصرم، ارتفع حجم الاستهلاك بالمطاعم في أحياء وانغفوجينغ وسانليتون وتشينغنيانلو، التي تعجّ بمراكز التسوق، بنسبة 51.3 بالمئة خلال ساعات الليل، مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي. ما دفع المدينة لاتخاذ خطوة أخرى بتشجيع العلامات التجارية العالمية لإطلاق منتجات جديدة، وتطوير علامات تجارية صينية وعلامات محلية تقليدية، فضلاً عن توفير دعم مالي للاستثمار في مشاريع تصميم الصور وتحسين بيئة الشوارع والمناطق المختصة.
وبناء على النتائج الواعدة لتجربة بكين في حفز "اقتصاد الليل"، تواصل مدن أخرى مثل شانغهاي تعزيز وتطوير الفكرة، حيث أصدرت لجنة الأعمال وغيرها من تسع إدارات أخرى فيها نسختها المحلية من "اقتصاد الليل"، لتعزيز رخاء الاقتصاد الليلي من الساعة السابعة مساء حتى الساعة السادسة في صباح اليوم التالي. فبدأت حديقة "يو" بيع الأطعمة الشهية وعرض التراث الثقافي غير المادي وبيع المنتجات الثقافية المتميزة ومشاريع أخرى.
ووفقا للبيانات، تمثل مبيعات التجارة الليلية في شانغهاي 62% من المبيعات نهاراً، ويساهم الاستهلاك الليلي بـ 55% من قيمة إنتاج صناعة الخدمات بمدينة قوانغتشو في مقاطعة قوانغدونغ بجنوبي الصين، كما أن إيرادات المطاعم الليلية تمثل ثلثي إجمالي الايرادات في بلدية تشونغتشينغ بجنوب غربي الصين، بينما أصبح الطعام والتسوق والترفيه ثلاث ركائز أساسية للاستهلاك الليلي في مدينة تشنغدو في مقاطعة سيتشوان بجنوب غربي البلاد.
ومن خلال الأرقام والإحصاءات الأولية لهذه التجربة الاقتصادية، تبرز مجدداً أهمية الإبداع والابتكار، فما دامت الإمكانيات مُتاحة لخلق فضاء أرحب، وما دامت المواهب والأفكار الإبداعية تحظى بمزيد من الدعم الحكومي والشعبي، فإن تجارب اقتصادية إبداعية وخططاً حكومية داعمة ستكون حاضرة أكثر في المستقبل، سواء على مستويات صغيرة أو كبيرة. لم لا! طالما أن الغاية واحدة والهدف مشترك للجميع، فنهضة البلاد ورفاه شعبها يمثلان التطلع والأمل الأسمى لجميع دول وشعوب العالم.