كتب العالم السياسي الأمريكي الراحل روبرت جيرفيس في مقدمة كتاب بعنوان "التدخل الأمريكي الجديد"، يقول فيها إن "التدخل أمريكي مثل فطيرة التفاح".
وكُتبت كلمات جيرفيس قبل 23 عاما ولا تزال صالحة حتى اليوم. إنها تمس قلب السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهي سياسة تتميز بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتقويض حكمها، بهدف نهائي يكمن في ضمان الهيمنة الأمريكية.
وأدت مثل هذه السياسة الخارجية التدخلية إلى ظهور مشاهد من الويلات والرعب في جميع أنحاء العالم وعرّضت السلام والاستقرار على الصعيد العالمي لخطر كبير.
-- آثار إراقة الدماء
في ربيع عام 1805، قام ضابط الجيش الأمريكي والقنصل الدبلوماسي وليام إيتون، بالتحالف مع حامد القرمانلي الشقيق المخلوع ليوسف القرمانلي، باشا طرابلس أو ليبيا اليوم، بتسيير جيش لمهاجمة درنة، حيث استولوا بسهولة على مدينة طرابلس بمساعدة ثلاث سفن أمريكية، واضطر الباشا إلى الاستسلام.
واعتبر العديد من العلماء أن الحادث، الذي أدى إلى نهاية الحرب البربرية الأولى وانتصار الولايات المتحدة، هو أول محاولة أمريكية لإحداث انقلاب في حكومة أجنبية من خلال التدخل العسكري، ما أدى إلى سعي الولايات المتحدة لاحقا للهيمنة العالمية.
ومنذ ذلك الحين، شنت الولايات المتحدة المزيد من التدخلات العسكرية الدموية في الخارج، وغالبا ما كانت تنقض على دولة وتشن هجمات مميتة حتى يتم إلقاء الهدف في حالة من الفوضى والإطاحة بحكومته.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عام 2001، بدأت الولايات المتحدة 201 من النزاعات المسلحة في 153 موقعا، وهو ما يمثل أكثر من 80 بالمئة من إجمالي الحروب التي وقعت في جميع أنحاء العالم في ذلك الوقت. ومنذ عام 2001، أسقطت واشنطن وحلفاؤها متوسط 46 قنبلة على دول أخرى يوميا.
كانت تلك الحروب، التي كانت باسم "الديمقراطية" و"الحرية" و"حقوق الإنسان" بالأساس، تمثل تدخلا طائشا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تاركة وراءها الموت والدمار في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
وعلى سبيل المثال، نفذت قوات الناتو بقيادة الولايات المتحدة غارات جوية مستمرة لمدة 78 يوما ضد يوغوسلافيا، والنتيجة؟ سقط أكثر من 8000 مدني ما بين قتيل ومصاب ونزح ما يقرب من مليون شخص.
أسفرت الحرب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان عن مقتل نحو 50 ألف مدني أفغاني من عام 2001 إلى منتصف أبريل 2020 وتحول نحو 11 مليون شخص إلى لاجئين. وعلاوة على ذلك، خلفت سنوات من إراقة الدماء أكثر من 200 ألف قتيل مدني عراقي وجرت ليبيا إلى اضطرابات أكبر.
وقال الرئيس الأمريكي سابقا جيمي كارتر عام 2019 إن الولايات المتحدة هي "الدولة الأكثر حروبا في تاريخ العالم"، مضيفًا أن بلاده لم تتمتع إلا بـ16 عاما من السلام في تاريخها الذي يبلغ 242 عاما.
وأوضح جيلبرتو فالديس جوتيريز، من المعهد الكوبي للفلسفة، لوكالة أنباء ((شينخوا))، أن تاريخ الولايات المتحدة في النهب "مرتبط بالعديد من التدخلات العسكرية وتنظيم الانقلابات للقضاء على تلك الحكومات التي لم تستجب بسهولة لمطالبها".
كما لخص المؤرخ الأمريكي بول إل أتوود هذه الطبيعة القتالية للولايات المتحدة، قائلا إن "الحرب طريقة الحياة الأمريكية".
-- تلاعب خفي
إن العدوان العسكري الصريح ليس الأداة الوحيدة للسيطرة الأمريكية، إذ أنها لجأت إلى الإغراء الاقتصادي والعقوبات المالية والتسلل الثقافي والتحريض على الشغب والتلاعب بالانتخابات، وغيرها من الحيل لتخريب ما تسمى "الدول المعادية أيديولوجيا" سرا.
اعترف مستشار الأمن الوطني الأمريكي السابق جون بولتون بهذه التحركات المخادعة في مقابلة مع شبكة ((سي إن إن)) في منتصف يوليو، حيث قال "بصفتي شخص ساعد في التخطيط لانقلاب، ليس هنا ولكن في أماكن أخرى، فإن الأمر يتطلب الكثير من العمل".
كما كتبت عالمة السياسة في كلية بوسطن ليندسي أورورك في كتابها "تغيير النظام الخفي: الحرب الباردة السرية لأمريكا"، من عام 1947 إلى 1989، أطلقت الولايات المتحدة 64 عملية تخريبية سرية في دول أخرى.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، عززت الحكومة الأمريكية الاضطرابات السياسية في أمريكا اللاتينية، ولعبت دورا في "الربيع العربي" وحرضت على "الثورات الملونة" في أوروبا وآسيا. وفي أمريكا اللاتينية، تواصل التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بموجب "مبدأ مونرو".
وزادت العقوبات التي تفرضها واشنطن عشرة أضعاف في السنوات العشرين الماضية. ولطالما أدرجت كوبا وفنزويلا وليبيا وإيران والعراق وسوريا وغيرها على قائمتها السوداء، ما أدى إلى تعطيل اقتصادات هذه الدول بشكل متعمد وإلحاق الضرر بسبل عيش الشعوب، حتى وسط جائحة كوفيد-19.
وفي مقابلة مع صحيفة ((يو إس إيه توداي)) في سبتمبر 2020، أشار الباحث السياسي دوف إتش لفين إلى أن الولايات المتحدة قد تدخلت في 81 عملية انتخابية بين عامي 1946 و2000، بما في ذلك الانتخابات في يوغوسلافيا وإيطاليا.
وقال مقال نشرته مجلة ((فورين أفيرز)) في يونيو 2020 إن أول عمل سري معروف لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كان التلاعب بانتخابات عام 1948 في إيطاليا من خلال نشر دعاية مثيرة للفتنة وتمويل مرشحهم المفضل وتنظيم مبادرات على مستوى القاعدة الشعبية -- "كل ذلك لصالح قوى الوسط في إيطاليا على حساب منافسيهم من اليسار".
ولفت ألفريد دي زياس، أستاذ القانون الدولي بكلية جنيف للدبلوماسية والذي يشعر، بصفته أمريكيا، "بمسؤولية غير مباشرة" عن جرائم بلده، إلى أن الولايات المتحدة مولت منظمات غير حكومية "موجودة أساسا لزعزعة استقرار الدول".
-- غطرسة لا تموت
وفي مقابلة مع وكالة أنباء ((شينخوا))، وصف جريج كوزاك، العضو السابق في مجلس نواب ولاية أيوا الأمريكية، السياسة الخارجية لبلاده بأنها "الشكل الحديث من 'الغطرسة الغربية'".
لقد كان محقا: منذ بداية تأسيسها، شكلت الولايات المتحدة ثقافة القرصنة التي تدعو إلى النهب والغزو. وفي وقت لاحق، مع ظهور نزعة الانتصار في الغرب بعد نهاية الحرب الباردة، رأت الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة في العالم، فرصة نادرة لإعادة تشكيل العالم بالشكل الذي تراه مناسبا ولكي يكون لها اليد العليا على العالم.
لكن "فترتها أحادية القطب" لم تدم طويلا. مع تحول العالم نحو عالم متعدد الأقطاب، تخشى الولايات المتحدة من ضعف تفوقها العالمي، وبالتالي بدأت في إحكام قبضتها.
وفي مقال رأي نُشر في يوليو، كتب الكاتب والمعلق السياسي جون وايت يقول إن "إمبراطورية واشنطن مبنية على أسس الجشع والرغبة في السلطة".
وكتب وايت أن "غطرستها الإمبريالية" هي نفسها التي تصاحب أي إمبراطورية "لم تتأسس باسم السلام والازدهار، ولكن باسم الحرب والاستغلال"، مضيفا أن الولايات المتحدة "تسعى للهيمنة ولديها سياسة التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى".
في الواقع، لطالما قوضت الولايات المتحدة القواعد الدولية، وأجبرت الآخرين على الانحياز وانتقمت من أولئك الذين رفضوا الامتثال لها. امتدت العواقب إلى ما هو أبعد من الخسائر البشرية والانهيارات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية للدول المستهدفة، لتصل إلى تحطيم الاستقرار الإقليمي والعالمي.
ولتبرير سياستها التدخلية، أخفت الولايات المتحدة جرائمها لتُظهرها على أنها "نظرية الحرب العادلة" وما تسمى "تجارب ديمقراطية".
وفي تصريحات لـ((شينخوا))، قال دانييل كوفاليك، الخبير الأمريكي في مجال حقوق الإنسان الدولية من جامعة بيتسبرغ، إن الولايات المتحدة تستخدم حقوق الإنسان كـ"هراوة" ضد أهدافها.
وأضاف أن الأمر لا علاقة له بحقوق الإنسان، بل "يتعلق بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة".
وقال الصحفي التركي المخضرم تونش أكوتش إن "الحديث عن الديمقراطية أداة الضغط الأمريكية على الدول ... كل منطقة غزوها دُمرت تماما ماديا وروحيا لأنهم وضعوا الجيران ضد بعضهم البعض".
وكما ورد في مقال رأي نُشر العام الماضي في صحيفة ((ساوث تشاينا مورنينغ بوست))، فإن الولايات المتحدة "تقدم كل العواقب التي يمكن أن تفرضها دولة مهيمنة على دول غير متوافقة".