بقلم/ د. فايزة سعيد كاب، باحثة في الشؤون الصينية والعلاقات الصينية ـ الدولية
يمر العالم بمرحلة تغير لم يسبق له مثيل منذ قرن من الزمان، ويظل عدم اليقين مثل الشبح في العديد من مواقع ومستويات الهيكل العالمي. وفي ظل هذه التغيرات، مالت بعض الدول الصغيرة بميول رياح التغيير، في حين تبقى الدول الكبرى قوية في التصدي نسبيًا، لكن من المرجح أيضًا أن تصبح محورًا للتداخل بين المصالح والتناقضات.
إن دخول الصين باعتبارها دولة كبرى هذا المحور أمر لا مفر منه، فقد شهدت على مدى العام الماضي التأثير المستمر للحرب التجارية الامريكية والاندلاع المفاجئ لعاصفة من المراجعات في هونغ كونغ، وبلغت الهجمات الأمريكية والغربية على الحكم في شينجيانغ ذروتها. لكن، تُعد الحرب التجارية بين الصين وأمريكا أقوى عاصفة غيرت تشكيل العلاقات بين البلدين، من علاقات معقدة إلى علاقات تحمل في طياتها دوافع متشددة، دفعت الصين إلى التوجه نحو المواجهة الانتقامية مع أمريكا. لكن استراتيجية الواقع التي تتبعها الصين في مثل هذه التحديات، وروح الصبر في التفاوض جعلها تتبنى التغيرات في العلاقة بموقف واقعي، بالرغم من قدرتها على محاربة العديد من التجاوزات الأمريكية. وكانت الصين قد أوضحت ذلك في تصريح سابق:"إن القيود والتدخل والتخريب والحصار من جانب الولايات المتحدة كلها أمور لن تؤثر على الصين، مضيفا أن النكسات المؤقتة لن تعمل إلا على إلهام ذكاء الشعب الصيني وسترفع من روحه المعنوية."
شهدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين صعودًا وهبوطًا، لكن بين الخط الهارب والقابل للتحكم، ظهر خط توازن تدريجيًا. حيث تم توقيع "المرحلة الأولى" من الاتفاقية الاقتصادية والتجارية في يناير هذا العام .
إذا نظرنا إلى الخلف، فإن استراتيجية الصين في التعامل مع الحرب لا تركز على تحقيق النصر وحسب، بل أيضا على تجنب الهزيمة وتقليل وتفادي الخسائر بأكبر قدر ممكن، والبحث عن إمكانية تحقيق النصر مع تجنب القتال إذا كان ممكنا أظهرت ثقتها القوية بالنفس، وإمكانية تجنب الأسوأ وتحقيق الاستقرار في السوق، وتقليل من الخسائر، وخلق تغيير إيجابي مناسب يعكس الوضع السلبي غير المواتى.
تعتبر السياسة التجارية الامريكية تجاه الصين خلال العامين الماضيين أحد الأسلحة الامريكية في حرب غير تقليدية لمواجهة التنمية الاقتصادية الصينية المتسارعة التي نقلت الصين من دولة فقيرة ومعزولة إلى واحدة من القوى الاقتصادية العظمى، والأهم من ذلك ترسيخ الصين المتعاظم لموقعها على الساحة الدولية. غير أن هذا السلاح الذي لم تنجح أمريكا في تطويره ما لبث أن كان أثره عكسي، لتتحول إلى سلاح آخر متطور نوعا ما وهو التدخل في الشؤون الداخلية للصين باستغلال اهم قضيتين " هونغ كونغ"و" شينجيانغ"، لا لهدف سوى لخلق اضطرابات في داخل الصين وانشغال الأخيرة عن التنمية الاقتصادية.
هونغ كونغ .. قضية أمن قومي لا تقبل التدخل أو ازدواجية المعايير
ظلّت هونغ كونغ لمدة طويلة تحت الحكم البريطاني، بموجب "اتفاقية التأجير" المبرمة عام 1898، ومن ثم عادت إلى البر الرئيسي لتصبح جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية اعتبارا من عام 1997. وبموجب الاتفاق المشترك بين الجانبين، تتمتع حكومة هونغ كونغ بالإدارة الذاتية بمستوى عال في عدة المجالات، باستثناء مجالي السياسة الخارجية، والدفاع حتى عام 2047، الذي يعد موعد انتهاء الصلاحية القانونية لتجربة "دولة واحدة ونظامان" المعمول بها منذ عام 1997.
وتعتبر هونغ كونغ، واحدة من أبرز المراكز الاقتصادية والمالية في العالم، فإن اقتصاد هونغ كونغ اقتصاد سوقي حر عالي التطور، قائم على الخدمات ويتميز بالضرائب المنخفضة، وتجارة ميناء معفاة تقريبا، ويعتمد اقتصاده بشكل كبير على التجارة والتمويل الدوليين، ما يجعلها من أفضل الأماكن للقيام بشركات تجارية. وقد كانت هونغ كونغ في أواخر القرن الـ20 سابع أكبر ميناء في العالم وفي المرتبة الثانية بعد نيويورك وروتردام من حيث حجم إنتاج الحاويات. وتُعد هونغ كونغ عضوًا كامل العضوية في منظمة التجارة العالمية، وأحد الأطراف المهمة في التنمية الاقتصادية الصينية.
شهدت منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة العام الماضي اضطرابات تُعتبر الأعنف في تاريخها منذ عودتها إلى احضان "الوطن الأم" سنة 1997، ودعا بعض المتظاهرين علناً إلى "استقلال هونغ كونغ"، وطالبوا بـ"تأسيس دولة باستخدام القوة" و"وضع الدستور في الميدان" و "القتال من أجل أمريكا". ما بات من الضروري في الوقت الحالي إنشاء وتحسين النظام القانوني وآلية الإنفاذ في منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة لحماية الأمن القومي.
ويعد إنشاء وتحسين النظام القانوني وآلية الانفاذ في منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة بهدف حماية أمنها القومي قضية حيوية بالنسبة للصين ذات سيادة، حيث ترجع التشريعات المتعلقة بالأمن القومي إلى صلاحيات السلطة المركزية، وهذا ليس استثناءا أو جديدا، وأنما أي بلد في العالم، سواء كان نظامًا وحدويًا أو نظامًا فيدراليًا، فإن تشريعات الأمن القومي تعود للسلطة التشريعية الوطنية. لكن، الولايات المتحدة التي لديها مصالح كبيرة في المنطقة التي تعتبر محورا ماليا عالميا، وتمتلك هناك نحو 80 ألف مواطن أمريكي مقيم وأكثر من 1300 شركة أمريكية في هونغ كونغ، حسب ما ذكره الاعلام الصيني، لم تمرر الفرصة لتظهر نفسها بحامي البلاد والعباد، ودعوة بعض ساستها خلال الفترة الأخيرة الى "رد فعل قوي" و "اعادة تقييم المكانة الاستثنائية لهونغ كونغ".
وردا على التصريحات الأخيرة لبعض السياسيين الأمريكيين، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان، إن وضع هذا التشريع شأن خالص من الشؤون الداخلية للصين ولا يسمح بأي تدخل أجنبي. ونوه تشاو بأن هونغ كونغ منطقة إدارية خاصة للصين وأن الحكومة المركزية مسؤولة عن دعم الأمن الوطني. وذكر تشاو أنه "في مواجهة التحركات الخاطئة للقوى الخارجية للتدخل في شؤون هونغ كونغ، سنتخذ التدابير المضادة الضرورية للرد عليها ".
وقال باي تشون لي، رئيس الأكاديمية الصينية للعلوم في تصريح لوكالة الانباء الصينية، إن تلك الخطوة التشريعية منطقية وشرعية للغاية في ظل توافقها مع الدستور الصيني والقانون الأساسي لمنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة، لافتا إلى أنها ستدعم الأساسات القانونية والاجتماعية والسياسية لمبدأ "دولة واحدة ونظامان".
ليس هناك أي دولة في العالم يمكنها أن تتسامح مع الأنشطة التي تهدد أمنها القومي، حيث لديها قوانين أمنية وطنية متكاملة تحدد بوضوح الجرائم المتعلقة بالأنشطة الانفصالية والإرهاب والخيانة والتجسس والتخريب والشغب، ومنها ما تؤدي الى السجن المؤبد او الإعدام.
وقالت كالي كوونغ مي-وان، نائبة بالمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني عن هونغ كونغ لوكالة الانباء الصينية، إنه بعد اعتماد القرار، يتعين على هونغ كونغ استكمال متطلبات تشريع الأمن الوطني المنصوص عليها في المادة 23 من القانون الأساسي لمنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة، خلال وقت قريب.
وتتضمن المادة 23 من القانون الأساسي لهونغ كونغ أحكاما واضحة في الحفاظ على الأمن القومي، والتي تتطلب منها تنفيذ التشريعات بمفردها. لكن، الحقيقة أنه بعد حوالي 23 سنة من عودة هونغ كونغ إلى الوطن الأم، لم تتمكن التشريعات المحلية من التقدم، وكثيرا ما استخدمت القوى الفوضوية وجود هذه الثغرة في النافذة التشريعية لتحدي سلطة حكومة جمهورية الصين الشعبية المركزية بشكل متكرر من أجل الترويج لأفكارهم المتعلقة باستقلال هونغ كونغ وإصرارهم في الدفاع عن هذه الأفكار وبث الفتنة والتحريض على الانقسام والدعوة له وتنظيمه.
كلية الدراسات الإسلامية في شينجيانغ
شينجيانغ.. معارضة المعايير المزدوجة في محاربة الإرهاب
تقع منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم التي يسكنها 25 مليون نسمة في شمال غربي الصين وملتقي قارتي آسيا وأوروبا. وتجاورها ثماني دول من جهة الشمال والغرب وهي منغوليا روسيا وقازاقستان وقرغيزستان وطاجكستان وأفغانستان وباكستان والهند ومعظمها على طول " الحزام والطريق". ويمتد خط الحدود الصيني في منطقة شينجيانغ مع أكثر من خمسة آلاف وأربعمائة كيلومتر الأمر الذي يجعلها تمتلك أطول وأكثر خط حدود عبورا في الصين.
وتوجد في شينجيانغ ثلثا الصحاري الصينية الغنية بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن. حيث يشكل احتياطيها من الفحم والنفط ثلث اجمالي احتياطيهما في الصين، إضافة إلى ذلك أصبحت شينجيانغ تمتلك أكبر الحقول النفطية وأكثر منطقة ازدهارا في اكتشاف النفط في البر. كما تتميز المنطقة بوفرة المخزون من النفط والغاز الطبيعي والفحم والذهب والنحاس والكروم والنيكل والمعادن الثمينة والمعادن الملحية ومواد البناء. وتحتوي منطقة شينجيانغ على 138 منجماً، ونسبة 30% من كمية الموارد النفطية داخل الأراضي الصينية، و34% من الغاز الطبيعي و40% من الفحم الطبيعي، ويعتبر هذا الاقليم ثاني أكبر مورد لنترات حامض النتريك الطبيعية عالميا.
لقد عانت شينجيانغ في السنوات الأخيرة الماضية بشدة من التطرف والعنف والإرهاب. وكأي دولة او منطقة في العالم تواجه الإرهاب، قامت حكومة منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم بمكافحة جرائم العنف والتطرف مع معالجة الأسباب الجذرية لها. وكانت النتائج واضحة أمام العالم اجمع، حيث لم تشهد المنطقة حادثا إرهابيا واحدا على مدار الأعوام الثلاثة المنصرمة.
لكن، وفي ظل ازدواجية المعايير عند الغرب في محاربة الإرهاب، تستغل الولايات المتحدة الحركة الانفصالية «حركة تركستان الشرقية الإسلامية» التي تتخذ من الدين سلاحا، لترفع سلاح "حرية المعتقدات" في تجاه الصين، وتعلن تمرير مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون حول قضايا متعلقة بشينجيانغ أو ما يدعى بـ "مشروع قانون سياسة حقوق الإنسان للويغور لعام 2019"، الذي اعتبرته الصين تشويها متعمدا لوضع حقوق الإنسان في شينجيانغ. وقد تبنى مجلس وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في مارس من العام الماضي، قرارا أشاد بجهود الصين في توفير الرعاية للمواطنين المسلمين. وفي شهر يوليو من نفس العام، وقع معا سفراء إلى مكتب الأمم المتحدة في جنيف من أكثر من 50 دولة خطابا إلى رئيس مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أشادوا فيه باحترام الصين وحمايتها لحقوق الإنسان في جهودها لمكافحة الإرهاب واجتثاث التطرف. وفي شهر أكتوبر، وخلال جلسة اللجنة الثالثة للدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أثنت أكثر من 60 دولة في بياناتها على التقدم الهائل الذي تحقق على صعيد حقوق الإنسان في شينجيانغ. وتعد كل هذه أدلة قوية على أن الاتهامات الأمريكية بشأن القضايا المتعلقة بشينجيانغ تتعارض كليا مع الحقائق والاتجاه السائد للرأي العام للمجتمع الدولي.
كما أعلنت وزارة التجارة الأمريكية في مايو الجاري إنها ستعاقب 9 شركات ومؤسسات صينية على خلفية تواطؤها في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في شينجيانغ. وقد اعتبرت الصين هذا الاجراء انتهاكا صارخا للقواعد الأساسية للعلاقات الدولية، وتدخل في الشؤون الداخلية للصين، ويضر بمصالحها. معربة عن بالغ استيائها ومعارضتها الحازمة لإدراج الولايات المتحدة الشركات والمؤسسات والأفراد الصينين في "قائمة الكيانات" الخاصة بها. وقال تشاو لي جيان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية خلال المؤتمر الصحفي المنعقد يوم 25 مايو، إن شؤون شينجيانغ هي شؤون داخلية بحتة للصين، ولا يحق لأي دولة التدخل فيها، وأن الصين تحث الولايات المتحدة إلى تصحيح أخطائها وإلغاء القرارات ذات الصلة والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للصين.
أعتقد أن الأسلحة المتنوعة التي تستخدمها أمريكا في حربها غير التقليدية ضد الصين في جميع الاتجاهات وبطرق مختلفة لا تؤتي أكلها، لأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كشف منذ توليه الحكم بأن مصلحة أمريكا أكثر أولوية من خلال انفاذ وتطبيق شعاره "أمريكا أولا"، وفضح استغلال أمريكا لورقة الديمقراطية وحقوق الانسان لضعف واركاع أنظمة ومناطق ودول أخرى للهيمنة عليها وتحريكها وفقا لمصالحها الخاصة. والصين ليست دولة تصادمية، وتمتلك طول النفس في تهيئة الظروف المناسبة والقوة الكافية للدفاع عن فلسفتها في الحفاظ والدفاع عن أمنها وتوجيه الحرب وفقا فلسفة استراتيجيتها.
في الواقع، ينبغي على الغرب وعلى رأسهم أمريكا النظر إلى التنمية الاقتصادية الصينية بطريقة عقلانية وموضوعية. وأن تعترف أمريكا بالأهمية المتزايدة للصين على الساحة الدولية، بعد أن باتت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر دولة في تجارة البضائع، وأكبر دولة في امتلاك احتياطي النقد الأجنبي وثاني أكبر دولة في تجارة الخدمات وثاني أكبر دولة في استغلال رأس المال الأجنبي وثاني أكبر دولة في الاستثمارات الخارجية. ويتوقع أن يفوق اقتصاد الصين على نظيره الأمريكي من حيث حصته من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2029 بقيمة ناتج محلي تبلغ 25.6 تريليون دولار، مقابل 24.5 تريليون دولار أمريكي، طبعا إذا ما استثنينا اثار فيروس كورونا الجديد على اقتصادات العالم بما في ذلك الصين خلال هذه السنة. كما أصبحت مبادرة "الحزام والطريق" منصة مليئة بالفرص وطريقا نحو تحقيق الرخاء لكل المشاركين فيها. وقد تجاوز حجم التجارة بين الصين والبلدان المشاركة في مبادرة الحزام والطريق 6 تريليونات دولار بين عامي 2013 و2018، وتجاوز الاستثمار الصيني المباشر في تلك البلدان 90 مليار دولار، لتبلغ دورة رأس المال للمشروعات الخارجية المتعاقد عليها 400 مليار دولار.
اقرأ أيضا: فرض أمريكا عقوبات على 33 شركة ومؤسسة صينية ... هل هو إعلان عن بداية حرب باردة جديدة؟