أدى الانتشار السريع لوباء الالتهاب الرئوي الناجم عن فيروس كورونا الجديد ) كوفيد – 19) إلى تداعيات وخيمة على الاقتصاد العالمي، بعد أن شلّ جزءا كبيرا من حركة الطيران والسياحة والقطاعات الإنتاجية. وقد يكون التعافي الاقتصادي بعد انقضاء الجائحة بطيئا وغير مؤكد، وسيصاحبه بعض التغيرات الهيكلية الهامة أيضا.
نجحت الصين في السيطرة بشكل أساسي على انتشار كوفيد -19، إلا أن المخاوف من احتمال حدوث موجة ثانية من تفشي الفيروس لا تزال قائمة، ولا يزال الوضع الوبائي في بعض الدول الأجنبية خطيرًا للغاية. ما يعني، من ناحية، أن الجدول الزمني لعودة الاقتصاد العالمي إلى النظام الطبيعي ستحدده الدول الأكثر تسجيلًا للإصابات بكوفيد -19 بدلاً من الدول المسيطرة عليه، ولا توجد حتى الآن علامات واضحة على الانتعاش الاقتصادي في جميع أنحاء العالم. من ناحية أخرى، تكرار تجربة الانتعاش الاقتصادي في الصين بعد السارس "على شكل حرف V" قد تكون صعبة، على الأقل، بسبب الغاء الطلبات التي فرضه ضعف الطلب العالمي الذي يجعل من الصعب أن تصبح الصادرات القوة الرئيسية التي تدفع الاقتصاد للخروج من القاع.
منذ تفشي فيروس كوفيد -19، أصدرت الحكومة الصينية سلسلة من السياسات التي يمكن تقسيمها على نطاق واسع إلى ثلاث فئات: مكافحة الوباء، والإنقاذ وإعادة الاعمار. في الوقت الحاضر، بدأ تركيز السياسة في التحول إلى تدابير التحفيز الاقتصادي لدعم إعادة الإعمار، بما في ذلك الاستثمار في "البنية التحتية الجديدة" وبناء المناطق الحضرية. ومع ذلك، فإن التوقعات العامة الحالية هي أن الزيادة في الاستثمار في الأصول الثابتة ستكون متواضعة نسبيًا أيضًا، ولن تعتمد بعد الآن على سياسة التحفيز "الأربعة تريليونات" لإجبار الاقتصاد الصيني على مستنقع الأزمة المالية العالمية كما كان قبل 12 عامًا.
ومن العوامل الثلاثة التي تدفع بالنمو الاقتصادي الصيني" الاستثمار، التصدير، الاستهلاك"، يعتبر الاستهلاك العامل الأكثر احتمالًا للتعافي الاقتصادي في المستقبل، ولكن الافراج عن دور الاستهلاك سيكون أيضًا عملية تدريجية، واحتمالية النمو المتفجر بسيطة.
تجاوزت وتيرة الانخفاض في الاستهلاك انخفاض الدخل خلال الفترة من فبراير إلى مارس من هذا العام، حيث يظهر أن عدم اليقين الهائل جعل إنفاق المستهلكين أكثر تحفظًا إلى حد ما على الرغم من تأثيره بشكل رئيسي بتدابير الإغلاق لمكافحة الوباء.
قد لا يصبح سوق السلع الاستهلاكية في الصين على المدى المتوسط والطويل، القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي فحسب، بل قد يصبح نقطة مضيئة في الاقتصاد العالمي أيضًا. وعلى مدى الأربعين عامًا الماضية، أنشأت الصين قصتين اقتصاديتين عالميتين، الأولى في سوق التصنيع العالمي الكثيفة العمالة، والثانية في سوق السلع الدولية، والقصة الثالثة من المرجح أن تكون السوق الاستهلاكية في الصين. في عام 2019، تجاوزت مبيعات التجزئة الإجمالية للصين مبيعات الولايات المتحدة. وفي المستقبل، ستزداد نسبة الاستهلاك في الدخل القومي بشكل أكبر، ولا يزال نمو سوق السلع الاستهلاكية في الصين يقود العالم.
وقد يكون الاقتصاد الرقمي نقطة مضيئة أخرى بين التغييرات الهيكلية التي أحدثها الوباء في الاقتصاد الصيني. حيث لعب الاقتصاد الرقمي خلال تفشي الجائحة دورًا مهمًا باعتباره "عامل استقرار للاقتصاد الكلي". ويمكن التوقع أنه بعد كوفيد -19، فإن نمو الاقتصاد الرقمي سوف يؤدي إلى فترة ذروة جديدة، كما ستعزز "البنية التحتية الجديدة" التطور السريع لهذا المجال.
من المرجح أن يؤدي تأثير كوفيد -19 إلى حدوث بعض التغييرات الهيكلية في البيئة الاقتصادية العالمية، وأن تزيد هذه التغييرات من عدم اليقين بشأن مسار الانتعاش الاقتصادي.
أولاً، أدى تأثير الوباء في بعض البلدان إلى تفاقم الشكوك القائمة بشأن العولمة، وستتبنى عدد من البلدان كذلك سياسات حمائية في مجال التجارة والاستثمار. وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية، كانت الصادرات والاستثمار الأجنبي المباشر من القوى المهمة التي تدعم النمو الاقتصادي للصين، ولكن قد يكون من الصعب الحفاظ على هذا النمط، وحتى إذا لم نفكر في التغييرات في سياسات الدول الأخرى، فإن الاقتصاد الصيني سيتحول نحو الدفع بالطلب المحلي. وسيتم تسريع هذه العملية بعد كوفيد -19.
ثانياً، استجابة لتأثير الوباء، اعتمدت البنوك المركزية والحكومات في جميع البلدان سياسة "بغض النظر عن التكاليف " أو " باي ثمن" من أجل استقرار الاقتصاد والمجتمع. ومن المرجح أن تصبح ظروف السيولة المحررة والرافعة المالية العالية هي القاعدة في الاقتصاد العالمي المستقبلي، مما سيكون له تأثير كبير على اقتصاد الصين وماليتها، مثل تقييد استقلالية السياسة النقدية، وتكثيف تدفقات رأس المال عبر الحدود وظهور فقاعات الأصول وهيكل غير متوازن.