بكين 16 مارس 2020 (شينخوا) في خطبته التوجيهية الشهيرة عام 1630، حذر جون ونثروب، الذي أصبح فيما بعد أول حاكم لمستعمرة خليج ماساتشوستس، رفاقه المستوطنين بضرورة اعتبار مجتمعهم الجديد "مدينة على تلة"، حيث ستعرض أية خطايا يرتكبوها أمام أعين جميع البشر.
وبعد ما يقرب من 400 عام، انحرف التحذير منذ فترة طويلة عن معناه الأصلي وبات على ما يبدو، أن واشنطن تبعد نفسها عن المعايير الأخلاقية لونثروب، وتحوّل القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم إلى قلعة غريبة من شأنها أن تجعل حتى الأخلاقي المُبجّل يتقلب في قبره.
على مدى العقود القليلة الماضية، ظل السياسيون الأمريكيون يتشدقون بكلام مكرر من توجيه ونثروب، ولكن ليس كتذكير بضرورة الانضباط الذاتي الدائم. وباستحضارهم لما يزعمونه مدينة "مشرقة" على تلة، أعادوا توظيفها كمصدر لما يسمى "الاستثناء الأمريكي"، وأعادوا تشكيلها إلى رمز لما يزعمون أنه امتياز موروث لبلادهم كنموذج أخلاقي للعالم.
لكن القائد الأخلاقي المزعوم ذاتيا لديه سجل موضوع تحت المراقبة في أحسن الأحوال. ويبدو أن التحريف الملائم لكلمات ونثروب قد ساعد واشنطن على تفادي أية هواجس مقلقة ناجمة عن مهاجمتها لدول ذات سيادة أخرى بذرائع ملفقة، أو إلقاء ثقلها هنا وهناك على المسرح العالمي، أو خلق كوارث إنسانية على المستوى الدولي.
على مدى السنوات الأخيرة، تراجعت واشنطن بشكل غير معذور، في قضايا عالمية خطيرة مثل تغير المناخ وكبح التسلح، ورفعت بلا خجل عصا التعريفات الجمركية الباهظة، وكلا الأمرين يهدف إلى مصالح ضيقة وقصيرة المدى لها على حساب المصلحة العالمية الأعمّ، بحيث أسهمت هذه التصرفات في دفع حامل المواصفات المعيارية المفترض، بعيدا عن وضعه "المشرق".
لقد تسبب هذا السلوك الأحادي والمتسلط بخيبة أمل متزايدة تجاه الولايات المتحدة، وخاصة بين المعجبين بها الذين يؤمنون بأنه مع القوة العظمى تأتي مسؤولية عظمى. وكما لاحظ الباحث الصيني البارز شين جيان في كتاب نُشر مؤخرا بعنوان "الخوف الوهمي: العلاقات الأمريكية والصينية"، فإنه مع تحول واشنطن إلى "وقحة ومتغطرسة جدا"، "يبدو أن هالة تمثال الحرية تتلاشى تدريجيا".
حاليا، تنحدر واشنطن لأعماق جديدة من الانحطاط الأخلاقي. ففي الوقت الذي يجب فيه على كل دولة اغتنام كل دقيقة والاستفادة من كل قطعة من الخبرة الجيدة المتاحة للحفاظ على سلامة شعبها ضد كوفيد-19، ينشغل بعض الساسة الأمريكيين بإلقاء اللوم على الصين، التي اشترت للعالم وقتا ثمينا بكم هائل من التضحيات وحققت تقدما كبيرا معترفا به عالميا في معركتها ضد فيروس كورونا الجديد.
وفي الوقت الذي تلعب فيه التبادلات بين الشعبين دورا متزايد الأهمية في الحفاظ على استقرار العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، ووسط توترات مثيرة للقلق أثارتها واشنطن في التفاعل بين العملاقين العالميين، قام الجانب الأمريكي مؤخرا بطرد العشرات من الصحفيين الصينيين، بحكم الأمر الواقع، في تصرف تنمّري صادم، كشف بشكل كامل، الطبيعة ذات الوجهين لمواعظ واشنطن وممارسة حرية الصحافة.
إن استهداف الصين بعنف ليس شيئا مفاجئا خلال سنوات الانتخابات الأمريكية، لكن الحلقات الأخيرة كانت غير متوقعة فعلا. وتشير علامات الانحطاط الصاخبة هذه إلى وجود فيروس عقلي في مركز أعصاب في واشنطن، مما يسبب قلقا متفاقما من الهيمنة، ويدفع الولايات المتحدة نحو التخلي عن المعايير الأساسية في العلاقات الدولية، وتعامل الصين النامية بسلام، كمنافس استراتيجي في لعبة المحصلة الصفرية، واستخدام كل حيلة في جعبتها لشيطنة هذه الدولة الآسيوية، وتشويه سمعة مؤسساتها، وكبح صعودها.
رغم ذلك، يخبرنا التاريخ أن كلا من مروجي لعبة المحصلة الصفرية والمطبلين لضرورة احتواء الصين، على خطأ. فقد أثبتت العلاقات بين البلدين على مدى العقود الأربعة الماضية أنه يمكنهما الحفاظ على علاقة مفيدة للطرفين. وقد أظهر سجل الصين الحافل على مدى العقود السبعة الماضية أن مسيرتها نحو النهوض الوطني لا يمكن وقفها مهما كلف الأمر.
وبالتالي، يكون التعاون مع الصين، وليس المواجهة المريرة، هو الأفضل وهو الذي يخدم المصالح الأساسية للولايات المتحدة. إنها حاجة ورغبة كل من الشعبين الصيني والأمريكي، وكذلك المجتمع الدولي بأسره، بأن يحافظ أكبر اقتصادين على هذا الكوكب، على علاقة جيدة.
ومثلما يكافح العالم فيروس كورونا الجديد من أجل صحة البشرية، فقد حان الوقت لأن تتخلص واشنطن من الفيروس الضارب في عقليتها، وتدرك المعنى الحقيقي لتحذير ونثروب، وتتحمل مسؤوليتها المستحقة في استعادة صحة العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، والعلاقات الدولية الأوسع.
وإذا سمحت للفيروس الفتاك المستوطن في عقليتها بمواصلة تضليلها، فسيكون محكوما على واشنطن أن تصبح أكثر ما كان ونثروب يخشاه: قلعة مظلمة على تلة.