تقع مدينة جينغ ده تشن(景德镇) في شمال شرقي مقاطعة جيانغشي، وتعرف في الصين بإسم "عاصمة الخزف". حينما تتجول في شوارع جينغ ده تشن، تكتشف بأن الخزف ليس مجرد أواني وتحف تحمى في الأفران، بل روح تسكن المدينة، هواء تتنفسه، وإيقاع يضبط حياة سكانها. فتراه في كل زوايا المدينة: في زينة الشوارع، في لافتات المحلات وفي أسماء الفنادق والمطاعم. وحينما تزور متحف الخزف بجينغ ده تشن، تكتشف بأن الخزف يمثل أرشيفا يحكي مختلف فصول التاريخ والثقافة الصينية والتبادل الصيني مع حضارات العالم الأخرى، من العرب إلى أوروبا، ومن اليابان إلى أمريكا.
أما في الوقت الحالي، فقد أخذت صناعة الخزف في جينغ ده تشن بعدا فنيا واسعا، حيث أسست المدينة "حديقة تهاو شي تشوان" للإبتكار في فن الخزف، تجمع الفنانين من الصين ومختلف أنحاء العالم.
تعرّف الرسامة الشابة تشاو إيشين، المتخصصة في فن الخزف، هذا الفن على أنه الجمع بين صناعة الخزف التقليدية وفن الرسم، وتكامل بين جمالية التحف الخزفية وبراعة الرسام، لكن المعنى الحقيقي لفن الخزف يتمثل أساسا في براعة اللوحة التي ينجزها الرسام.وترى بأن فن الخزف يمكنه أن يبرز جمالية المواد الخزفية وشكلها، وهو فن يمكنه التعبير عن أفكار وميولات المبدع، كما يحتوي على عدة معاني ثقافية صينية، ويدمج العناصر التقليدية والعصرية معا، وتعتقد تشاو إيشين، أن إستكشاف جمالية اللغة الفنية للخزف يعد هدف كل رسام مختص في هذا المجال.
وعن تاريخ فن الخزف في جينغ ده تشن، تقول الرسامة الشابة سانغ سوهوا، أن صناعة الخزف في جينغ ده تشن، ظهرت قبل 1800 سنة في أسرة هان، وتطورتمع أسرة جين الشرقية قبل 1600، لتزدهر في أسرة تهانغ، حيث ظهر الخزف الصيني المعروف بلونيه الأبيض والأزرق، لكن الخزف في جينغ ده تشن، عرف أوجه في حقبة أسرة سونغ، حيث ظهرت فيها 5 أفران كبرى لصناعة الخزف. وتقول سانغ سوهوا، أن حقبة يوان الماغولية، كانت مرحلة الإبتكار والتجديد في فن الخزف في جينغ ده تشن، حيث أضيفت العديد من المواضيع الجمالية لفن الخزف، مثل رسم الأزهار والنباتات، كما أدمجت المزيد من الألوان في الزينة، مثل الأحمر والأصفر والبرونزي. وترى سانغ سوهوا بأن صناعة وفن الخزف في جينغ ده تشن، قد تضررتا كثيرا بسبب الحروب التي شهدتها الصين في العصر الحديث، لكنهما إستعادتا عنفوانهما مع الثورة التقنية، كما أعطى الإنفتاح والتبادل الثقافي لفن الخزف في جينغ ده تشن إتجاهات تطور جديدة، حيث تضم حديقة تهاو شي تشوان للإبتكار عدة رسامين وفنانين من أوروبا وأمريكا، يعملون في فن الخزف جنبا إلى جنب مع الفنانين والرسامين الصينيين، وهو ما يدمج العناصر الفنية الأجنبية في فن الخزف الصيني، ويخرج بثقافة الخزف بجينغ ده تشن إلى العالمية.
تقدم جينغ ده تشن بيئة فنية ثرية ومتنوعة تلهم الرسامين والفنانين على تطوير مواهبهم ومهاراتهم وإبداع أعمالية فنية جيدة. في هذا الصدد تقول الرسامة تشاو إيشين، التي جائت إلى جينغ ده تشن، بعد أن تخرجت من معهد لوشون للفنون الجميلة، بأن البيئة الثرية في جينغ ده تشن قد ألهمتها في تطوير أعمالها الفنية، التي تدمج فيها العناصر الصينية والغربية، حيث ألهمتها الثقافة التلقيدية في تطوير مجموعة أعمال تحت عنوان، "يد بوذا"، التي أدمجت فيها عدة تقنيات فنية وعدة مواد مثل الزجاج والملح والطين، ثم إستعملت فرن الخزف لتحمية الأعمال تحت 1300 درجة مئوية، ما أعطى أعمالها أسلوبا مميزا. كما تقول تشاو إيشين، بأنها تأثرت بأسلوب الرسام الهولندي كورنيليس ماندريان في تطوير سلسلة أعمالها "الأبراج البنيوية"، التي دمجت فيها العناصر التقليدية والحديثة، والثقافة الصينية الغربية بإستعمال المواد الخزفية. وترى تشاو إيشين، التي سبق لها أن مارست الرسم الزيتي، ثم إنتقلت إلى الرسم الخزفي، بأن الرسم الخزفي لديه مميزات تجعله يختلف كثيرا عن الرسم العادي، فمن جهة، يعد الخزف لغة فنية مستقلة بذاته، ومن جهة ثانية، تلعب النار دورا محوريا في صياغة هذا النوع من الفن، حيث أن مرور الأعمال الفني بالفرن، يمثل مرحلة إنعتاق وإنبعاث جديد للعمل الفني الذي ينجزه الفنان، فالنار تعد شريكا للفنان في تكوين ملامح العمل الفني. وعلى عكس اللوحة الزيتية التي يتحكم الرسام في مختلف تفاصيلها،يحتوي الرسم الخزفي على عنصر المفاجئة، فبعد أن ينهي الرسام عمله، عليه أن ينتظر صورة العمل النهائية بعد خروجه من الفرن.
يشهد الفن الخزفي في مدينة جينغ ده تشن وبقية أنحاء الصين تطورا كبيرا على مستوى الشكل والمضمون في الوقت الحالي، حيث ترى الرسامة سانغ سوهوا أن مايميز فن الخزف في الصين حاليا، هو تنوع العناصر المدمجة في الأعمال، وتنوع الأساليب والتقنيات والأفكار، إضافة إلى تجديد أساليب الرسم القديمة والتأثر بالمدارس الفنية الغربية.