تناوب كبار المسؤولين في واشنطن مؤخرا على إصدار التهديدات لدول من بينها الصين والهند، لحملها على الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة بشأن القضية الأوكرانية. وفي 6 ابريل الجاري، قال نائب وزيرة الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان بنبرة متغطرسة أن العقوبات المفروضة على روسيا قد "جعلت من السهل" على الصين أن تفهم، العواقب المحتملة لتقديم الدعم المادي لروسيا. وفي ذات اليوم كشف مدير المجلس الاقتصادي الوطني للبيت الأبيض بريان ديس، أن الولايات المتحدة أبلغت الهند أن عواقب وتداعيات "تحالف استراتيجي أكثر وضوحا" مع موسكو ستكون "خطيرة وطويلة الأمد". قبل ذلك، تحدث عدة مسؤولين أمريكيين عن فرض ضغوط عن الهند، بل ألمحوا حتى إلى فرض العقوبات عليها. كما انتقد الرئيس الأمريكي بايدن موقف الهند من الصراع الروسي الأوكراني واصفا إياه بـ"غير الموثوق".
وقد أصبحت الأزمة الأوكرانية مرآة لتعكس طموح الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الهيمنة عبر اتباع دبلوماسية الإكراه. فقد أحكمت واشنطن في البداية السيطرة على بعض الدول الصغيرة من خلال طعم الأمن، وجعلتها بيدقًا لضوابطها وتوازناتها في سبيل احتواء الدول الكبرى؛ ثم استمرت في إثارة الخلافات الإقليمية، واعتماد ذلك في ترهيب الحلفاء، والتحكم فيهم عبر ما تعتبره نظام القيم والأخلاق الدولية. لاحقا، وسعت واشنطن نطاق تحركها واستخدمت وسائل مختلفة لإجبار دول أخرى على الإختيار بين جانبين، معتمدة الضغوط في إرباك منافسيها والمحافظة على هيمنتها.
ومن المفارقات أن واشنطن قد اتهمت الصين في مناسبات متعددة خلال السنوات الأخيرة بممارسة "دبلوماسية الإكراه". لكن أزمة أوكرانيا جاءت لتظهر مرة أخرى بأن الولايات المتحدة كانت ولازالت الدولة التي لا تتردد عن ممارسة دبلوماسية الإكراه ضد الدول الأخرى. بما يدفع عدة دول إلى مستنقعات خطيرة، بينما تقف هي جانبا متخلية عن المسؤولية ومكتفية بالاستمتاع بالفوائد.
والحقيقة هي أن قبعة "دبلوماسية الإكراه" قد صمّمت خصيصا من أجل واشنطن. وحتى هذا المصطلح قد صاغه علماء أمريكيون لتلخيص سياسة الولايات المتحدة تجاه لاوس وكوبا وفيتنام في السبعينيات. وبعد انتهاء الحرب الباردة، استخدمت الولايات المتحدة أساليب مارقة مختلفة مثل التهديد باستخدام القوة والعزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية والحصار التكنولوجي لتخويف الدول الصغيرة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا والمحيط الهادئ، من أجل خدمة المصالح القومية الأمريكية. حيث دُمج مفهوم "دبلوماسية الإكراه" في مسار السلوك الخارجي للولايات المتحدة، بما يمثل نظاما مركبا جنبا إلى جنب مع الهيمنة.
تعبر "دبلوماسية الإكراه" عن توجه قوي نحو المحاسبة والإلزام الأخلاقي. حيث ترغب الولايات المتحدة في احتكار الحق في تفسير مفاهيم مثل "الديمقراطية" و "الحرية" و "حقوق الإنسان" و "السيادة". بينما هي في الحقيقة مجرّد مصالح أنانية. وفي هذا الصدد، قال نائب سكرتير مجلس الأمن الفيدرالي الروسي بوبوف مؤخرا، إنه بينما تجبر الولايات المتحدة الدول الأوروبية على فرض عقوبات على روسيا، فإنها تواصل استيراد النفط الروسي. حيث زادت وارداتها الأسبوع الماضي بنسبة 43٪ على أساس شهري لتصل إلى 100 ألف برميل يوميا، كما سمحت للشركات الأمريكية بمواصلة استيراد المعادن والأسمدة الروسية. أما بالنسبة لأوروبا، فقد تسببت الحرب والعقوبات في تدفق اللاجئين ومغادرة رأس المال إلى الخارج ونقص إمدادات الطاقة؛ في المقابل، كانت الولايات المتحدة المستفيد الأكبر العقوبات والحرب.
في الوقت الذي تسببت فيه دبلوماسية الإكراه الأمريكية في وقوع عدد كبير من الضحايا، قامت أيضا بتدمير المصداقية الوطنية للولايات المتحدة. حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد الوفيات غير الطبيعية للمواطنين الأجانب الناجمة عن العقوبات الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، قد تجاوز إجمالي قتلى الحرب. واليوم هناك المزيد والمزيد من الدول التي لا ترغب التضحية بنفسها من أجل المصالح الأمريكية. وفي مواجهة تهديدات الولايات المتحدة، قال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إن الهند تدافع بقوة عن مصالحها الخاصة دون أي خوف أو ضغوط ؛ وعبرت دول "صديقة للولايات المتحدة" مثل سنغافورة، عن عدم استعدادها للانحياز. وهو شكل آخر من مقاومة دبلوماسية الإكراه الأمريكية.
باتت دبلوماسية الإكراه الأمريكية اليوم أقل تأثيرا، وأصبح العالم أكثر ادراكا للأخلاق الأمريكية الزائفة ولهيمنتها الحقيقية.