تقديم: رغم ظهور العديد من المدارس الفكرية الصينية، ودخول العديد من الأديان إلى الصين. لكن الكونفوشيوسية كانت دائما الأكثر تأثيرا في الثقافة الصينية والنظام الإقطاعي الذي إستمر لنحو 2000 عام في الصين. ورغم الضربات القوية التي وجّهت للكونفوشيوسية في فترات من التاريخ الصيني الحديث، إلا أن أفكار كونفوشيوس كانت أكثر تغلغلا وتمترسا في الطبقات العميقة للثقافة الصينية وفي وعي ولا وعي الصينيين. وإستطاعت أفكار كونفوشيوس أن تعيش وتؤثر في الصين المعاصرة، سواء من خلال العادات والتقاليد، أو تيارات "الكونفوشيوسية الجديدة"، أو من خلال الجدل المستمر الذي تثيره أفكار كونفوشيوس بين المثقفين. وعلى المستوى الرسمي، كان تأسيس الصين لـ "معاهد كونفوشيوس" في مختلف أنحاء العالم، إعترافا من الصين المعاصرة بمكانة هذا الحكيم، ودليلا على أن مكانة كونفوشيوس لا تزال محفوظة في حاضر ومستقبل الصين. لماذا إستطاع كونفوشيوس أن يمارس كل هذه الهيبة والتأثير في الثقافة الصينية؟ هذا ما سيجيب عليه المقال التالي، للمفكر الصيني الشهير، تشان داي نيان.
كونفوشيوس والثقافة الصينية
تشانغ داي نيان: مفكر صيني وأستاذ الفلسفة السابق بجامعة بكين وجامعة تشينغهوا
ترجمة وتقديم: د. وليد عبدالله
يمنع إعادة نشر هذا المقال دون ذكر صحيفة الشعب اليومية أونلاين
إستطاع الصينيون على مدى آلاف السنين أن يشكّلوا ثقافة غنية ومتميزة. وقد كانت الثقافة الصينية دائما الزاد الروحي الذي تتسلح به الأمة الصينية في رحلة تقدمها عبر التاريخ.
إلى جانب اللغة المشتركة والمجال الجغرافي المشترك والحركة الإقتصادية المشتركة وغيرها من العوامل الموحدة لأي أمة، تعدّ "الخصائص النفسية المشتركة" التي تتجسد من خلال "الثقافة المشتركة" إحدى المكونات الرئيسية لكل أمة.
ولا شك في أن الثقافة الصينية أيضا تمتلك هذه "الخصائص النفسية المشتركة" التي تشكّلت على مرّ تاريخ طويل. فمن جهة، هناك أسسا مادية مرتبطة بالحركة الإقتصادية أسهمت في تكونها. ومن جهة ثانية، هناك أسسا فكرية ذات إرتباط وثيق بالتربية الإجتماعية. وهذه "الخصائص النفسية المشتركة" التي تعبر عنها الثقافة، تتشكل تدريجيا من خلال توجيهات وتربية مفكرين ومعلّمين كبار لهم بصمتهم العميقة في الثقافة.
يعد المفكر والمعلّم الكبير كونفوشيوس الذي عاش في حقبة الربيع والخريف، الشخصية الأهم والأقوى تأثيرا في تشكل وتطور "الثقافة المشتركة" و"الخصائص النفسية المشتركة" لدى الصينيين. وليس هناك أي شخصية أخرى في تاريخ الصين، يضاهي دورها في هذا الجانب، الدور الذي لعبه كونفوشيوس.
لباحث أن يسأل، كيف تمكنت أفكار كونفوشيوس من التغلغل بهذا العمق في الثقافة الصينية؟
هذا يعود أولا إلى أن كونفوشيوس قد عمل على نقل وتلخيص أفكار الثقافة الصينية القديمة التي نشأت منذ المجتمع البدائي إلى عهود شيا وشانغ وتشو (2224 ق.م - 256 ق.م). فنحن الآن، ننظر إلى كونفوشيوس على أنه شخصية ظهرت قبل زمن طويل. لكن في الحقيقة، قبل ظهور كونفوشيوس كان هناك تاريخا طويلا للثقافة الصينية، إمتد من 2000 إلى 3000 سنة.
رغم أن ياو وشون، (Shùn 舜 و Yáo 尧: عاشا في التاريخ الصيني الغابر، السابق لكونفوشيوس )، هما شخصيتان أسطوريتان في التاريخ الصيني، لكن ليس بالضرورة أن يكونا شخصيتين خياليتين. وقد أظهر كونفوشيوس إهتماما بالغا بأفكار سابقيه، وعمل طوال حياته على ترتيب الموروث الفكري لعصور "شيا وشانغ وتشو" منذ ياو وشون. ويظهر وفائه لأفكار سلفه في قوله: " أروي وأشرح أفكار السابقين، ولا أبتدع كما يحلو لي، وأثق في أفكار السابقين وأحبها." وقد وصفه تلميذه منغ زه (孟子mèng zǐ: 372 ق.م- 289 ق.م) بأنه : "الجامع الأكبر"، إعجابا بالجهد الكبير الذي بذله معلمّه كونفوشيوش في جمع وتلخيص الثقافة والأفكار القديمة، ليصنع منها شيئا فريدا. لذلك، فإن أفكار كونفوشيوس لم تُطرح من فراغ، بل كانت لديها أسسا تاريخية قوية. وهوما مكّنها من التأثير بشكل عميق في تطورالثقافة الصينية اللاحقة.
لقد كان كونفوشيوس "وارثا ومجددا" في نفس الوقت. فمن جهة، أجرى تلخيصا نظاميا للأفكار السابقة لعصره. ومن جهة ثانية، فتح آفاقا جديدة لتطور الثقافة الصينية، من فترة "المدارس الخاصة" التي إزدهرت في عصره إلى "جدل المئة مدرسة" في عصر الممالك المتحاربة.
اعتبرت مدرسة "جينغ ون شيوه" (مدرسة دراسة المؤلفات الكونفوشيوسية) في حقبة هان الغربية كونفوشيوس شخصية مقدسة، وكان ذلك تراجعا تاريخيا. أما المؤرخ الشهير سي ماتشيان(sī mǎ qiān 司马迁 : 145 ق.م -؟ )، والذي عاش في نفس الفترة، فقد إعتبر كونفوشيوس عالما. وقد إحتفظ كونفوشيوس منذ ذلك العصر إلى الآن بصورة الفيلسوف والمعلّم الكبير بالنسبة للصينيين. واستطاع كونفوشيوس أن يحفظ التراث الأدبي والتاريخي للعصور الصينية الغابرة من خلال تعليم تلاميذه.
جزء من كتاب"مختارات كونفوشيوس" مكتوب على لفافة خيزران
يوجد لدينا الآن مصدران رئيسيان للتعرف على أفكار كونفوشيوس، وهما: "مختارات كونفوشيوس" (lún yǔ 论语 )، و" حوليات الربيع والخريف " (zhuàn zuǒ 左传 )، وهما المؤلّفان الوحيدان اللذان يُجمع الجميع على نسبتهم إلى كونفوشيوس من بين العديد من المصادر الأخرى. وحتى من خلال "مختارات كونفوشيوس" و"حوليات الربيع والخريف" فقط، يمكننا القول بأن كونفوشيوس كان مفكرا ومعلما عظيما، وفيلسوفا نجح في إرساء الأسس الفكرية لتطور الثقافة الصينية.
فماهي أفكار كونفوشيوس التي بسطت الأرضية الفكرية لتطور الثقافة الصينية؟
هناك 3 نقاط رئيسية: أولا، الروح العملية؛ ثانيا، الإعلاء من شأن الأخلاق؛ وثالثا، إرساء تقاليد تقدير التجربة التاريخية.
رغم أن كونفوشيوس يؤمن بالقضاء والقدر، لكنه ليس الشخص الذي ينتظر ترتيبات الأقدار. بل يؤمن كونفوشيوس بضرورة بذل الإنسان كل مافي وسعه للوصول إلى أعلى المراتب. حيث يقول "إذا تعلّمت فلا تقْنع، وإذا علّمت فلا تكلْ". وفي حديثه عن حياته يقول :" انهمكت في العمل (الدراسة) حتى نسيت الطعام، وفي السعادة حتى نسيت الخوف، ودون أن أشعر وجدت العمر قد جرى بي." ويقول أيضا "كم سيء ان تكتفي بملء البطن دون أن تفعل شيئا مفيدا في يومك". فروح العمل والإنجاز تبدو جلية في كامل أركان البنية الفكرية لكونفوشيوس.
لقد كان كونفوشيوس مُنظّرا سياسا بارعا، وينبني فكره السياسي على ثلاثة نقاط رئيسية: أولا، الحُكم وفقا للأخلاق؛ ثانيا، مركزية السلطة؛ ثالثا، معارضة الإستبداد الفردي وإحتكار الوزراء للسلطة. حيث يولي كونفوشيوس أهمية كبيرة لدور الأخلاق في السياسة، ويطالب الحاكم بأن يعطي القدوة الأخلاقية للناس، حيث يقول في هذا الجانب: "السياسة هي الإستقامة، فإذا كان الحاكم مستقيما، هل سيجرؤ المحكوم على ألا يستقيم؟".
كونفوشيوس يعلم تلاميذه
حينما سُؤل كونفوشيوس:" هل يمكن القضاء على الدولة بجملة واحدة ، هل يوجد مثل هذه الجمل؟" قال : "...إذا قلتُ قولا صائبا، ولم يعارضني أحد، أليس ذلك أمرا جيدا؟! وإذا قلتُ قولا خاطئا، ولم يعارضني أحد، ألايعني هذا القضاء على الدولة بجملة واحدة؟". وهذا يعكس موقف كونفوشيوس الرافض للإستبداد الفردي، فرغم إعتقاده بأن السلطة العليا بيد القائد، لكنه يرفض أن يستبد الحاكم برأيه؛ في ذات الوقت يرفض إحتكار الوزراء للسلطة. وقد أعطت هذه الأفكار دفعا قويا للتطور التاريخي الذي يحتاجه عصر كونفوشيوس.
أُنتقدت أفكار كونفوشيوس بأنها محافظة، أو إحيائية (إحياء القديم)، حيث هناك من رأى بأن كونفوشيوس عمل على حماية " نظام حكم الشعائر الأخلاقية " لأسرة تشو. لكن في الحقيقة كونفوشيوس لم يعتبر هذا النظام أبديا وكاملا. فهو يراه تراكما وتطورا لنظامي حقبة "إين وشيا" السابقتين، وقوله "أنا أتّبع نظام تشو"، لايعني نظام الأسرة في حد ذاته، وإنما التطور الذي وصل له "نظام حكم الشعائر الأخلاقية" في هذه المرحلة. في ذات الوقت كان يرى بأن هذه المرحلة مفتوحة على مزيد من التطور والتحسن في المستقبل. وقد أثنى كونفوشيوس على مقولة الفيلسوف زي تشان (zǐ chǎn 子产: ؟- 522 ق.م) الشهيرة: "طريق السماء وطريق البشر لا يتقاطعان"، وفي ذات المعنى يقول كونفوشيوس: "إفعل مافيه فائدة للناس، إحترم "الآلهة" وخذ منها مسافة، فتلك هي الحكمة." وهذا دليل على أن كونفوشيوس كان فيلسوفا سياسيا مستنيرا.
لقد كان طموح كونفوشيوس خلال كامل حياته، أن يُغير "العالم الصيني" نحو المبادئ التي يدافع عنها، أي تحويل "عالم اللامبدأ" إلى "عالم المبدأ". ولم يكن نشاطه ثوريا، بقدرما كان نشاطا يطمح لتغيير التقاليد القائمة، وتأسيس "النظام المثالي".
تعرّض كونفوشيوس خلال حياته إلى التهجير والنفي بسبب أفكاره، لأنه كان يرى مالاتراه الطبقة الحاكمة، فقد كان ينظر من زاوية المصلحة الطويلة المدى لإستقرار النظام والمجتمع، في ظل إتجاه الصين للتحول من المجتمع العبودي نحو المجتمع الإقطاعي. لذلك، كانت أفكار كونفوشيوس تندرج ضمن متطلبات تطورالمجتمع الصيني في ظل الواقع الجديد.
لوحة كاليغرافية كتبت عليها مقولة للمفكر الكونفوشيوسي منغ زه
تعد الأخلاق مركز أفكار كونفوشيوس. وقد كان لقيمة الأخلاق تأثيرا بالغا في تطور الثقافة الصينية. ويقول كونفوشيوس عن علاقة الإنسان بالأخلاق، "إن النبيل من جعل الأخلاق أعلى المراتب"، حيث يرى كونفوشيوس أن الأخلاق هي الشيء الأكثر قيمة بالنسبة للإنسان. ويطرح مفهوم " rén 仁" (الران) في مرتبة القيمة العليا للأخلاق، وهذا المفهوم في معناه الضيق هو: "حب الآخر"، لكن بصفته علاقة متحركة داخل المجتمع، يعني "تبادل الفضيلة بين الناس".
يشرح كونفوشيوس هذه العلاقة القائمة على " حب الآخر" بقوله: "فقط حينما تعامل الناس بقلب مُحب، سيعاملك الناس بالحب، وحينما تعاملهم بتسامح سيعاملونك بتسامح ". غير أن مفهوم "الران" في الكونفوشيوسية، لايتوقف عند تبادل الفضيلة. بل يعني أيضا أن تحب للآخرين ماتحبه لنفسك، فإذا كنت تريد لنفسك النجاح، يجب أن تساعد الآخرين أيضا على النجاح. وإذا كنت تريد التقدم، يجب أن تساعد الآخرين على التقدم أيضا.
تظهر أهمية الأخلاق لدى كونفوشيوس في تقديمه الفضيلة على الحياة، فهو يرى أن الإنسان عليه في بعض الحالات أن يضحي بحياته من أجل تحقيق الفضيلة. حيث يقول: "صاحب العزيمة والفضيلة، لايقبل التضحية بالفضيلة من أجل الحياة، بل يقبل التضحية بالحياة من أجل الفضيلة."
وهذا لايعني ميول كونفوشيوس إلى الزهد، على العكس، يرى بأن هناك علاقة متلازمة بين الحياة المعنوية والحياة المادية. ويعتقد أن الحياة المادية هي أساس تكون القيم المعنوية لدى الإنسان، إذ فقط حينما تتم معالجة المشاكل المادية التي يعانيها الإنسان، يمكن رفع المستوى الأخلاقي للمجتمع. حينما زار كونفوشيوس "دولة وي"، وكان تلميذه يسوق العربة، تعجب كونفوشيوس قائلا: عدد السكان هنا كبير! فسأله تلميذه: مالعمل إذا كان عدد السكان كبير؟ فقال كونفوشيوس: نجعلهم "أثرياء"! فسأله تلميذه مرة أخرى: وماذا بعد ذلك. قال كونفوشيوس: ثم نعلمهم!
من حيث التراتبية، يرى كونفوشيوس أن الحياة المادية للمجتمع مقدمة على الحياة المعنوية، لكن من حيث الأهمية، يرى أن الأخلاق أعلى شأنا من المأكل والملبس.
وهذا المبدأ ينطبق أيضا على تصوره للدولة وعلاقة الحاكم والمحكوم. فحينما سُؤل كونفوشيوس عن طريقة إدارة الدولة قال:"مايكفي من الغذاء، مايكفي من العتاد العسكري، وثقة الناس في الحاكم". فسأله تلميذه: وإذا أردنا أن نحذف من هذه الثلاثة واحدة. قال كونفوشيوس:(نحذف) مايكفي من العتاد العسكري. فسأله تلميذه مرة أخرى: وإذا أردنا أن نحذف من الإثنين واحدة: قال كونفوشيوس: (نحذف)مايكفي من الغذاء، فالإنسان ميت لامحال، لكن لايمكن تأسيس دولة دون ثقة الناس في الحاكم".
إجمالا، يرى كونفوشيوس أن الأخلاق تحتاج إلى الأسس المادية، لكن في ذات الوقت يرى بأن الأخلاق أرفع مقاما من الحياة المادية.
لقد أثّر الإهتمام البالغ الذي أولاه كونفشيوس للأخلاق والحياة المعنوية تأثيرا عميقا في تشكل وتطور الثقافة الصينية. وهذا التأثير يمكن أن يظهر في جانبين رئيسيين: أولا، وجود تقاليد التعليم الأخلاقي بدل التعليم الديني في الثقافة الصينية؛ ثانيا، تقاليد الصمود والإلتزام.
طبعا أفكار كونفوشيوس ليست كاملة ومثالية. ويُعاب على النظريات الكونفوشيوسية ضعف إهتمامها بالتجديد، ودعوتها إلى "حكم الأخلاق" مقابل تهميش الدور العسكري. والإهتمام بالآداب والفنون أكثر من الإقتصاد. لكن يجب ألا ننسى بأن كونفوشيوس هو مفكر ظهر قبل أكثر من 2000 عام، وعلينا أن لا نكون مجحفين كثيرا مع القدماء. ومفكري هذا العصر، باتت لديهم القدرة الكافية على إطلاق الأحكام الموضوعية والصحيحة تجاه أفكار كونفوشيوس، والإدراك الواضح لآثار أفكار كونفوشيوس الإيجابية والسلبية على الثقافة الصينية.