الأخبار الأخيرة

مقال حصري: عيد الأضحى على قمة جبل إيميشان البوذي (7)

/صحيفة الشعب اليومية أونلاين/  17:00, September 14, 2016

    اطبع
مقال حصري: عيد الأضحى على قمة جبل إيميشان البوذي

بقلم وليد عبدالله، كاتب وباحث تونسي مقيم بالصين

قرأت في بداية العام الماضي تقريرا لمعهد صيني حول مؤشر السعادة في الصين، أظهر بأن مقاطعة سيتشوان تتصدر ترتيب المقاطعات والمدن الصينية على مستوى مؤشر السعادة، في حين جائت المدن الصينية الأكثر شهرة وتطورا، مثل بكين، شنغهاي وشنجن في مراتب متأخرة نسبيا، زاد فضولي نحوها حديث أصدقائي عنها، فأصدقائي الذين يعيشون هناك لاينوون مغادرتها، وأصدقائي الذين غادروها يرغبون في العودة إليها مجددا. بعث في كل ذلك رغبة كبيرة في زيارة سيتشوان، فقد كنت أشعر أن زيارتها ليست مجرد فسحة، وإنما علاج لما تسببه بكين والمدن الكبرى من ضغوط لساكنيها. لذا لم أتردد لحظة في قبول الدعوة التي وجهت لي لزيارة مدينة إيميشان التابعة لمقاطعة سيتشوان رغم تصادف الزيارة مع عيد الإضحى.

حطّت الطائرة بعد 3 ساعات في مطار تشنغدو، وأخذنا الحافلة الخاصة إلى مدينة إيميشان. هناك طريق سريعة تربط عاصمة المقاطعة-تشغندو بمدينة إيميشان، لكن الأفضل أن تذهب إليها عبر الطريق الجبلية، فالرحلة بين أحضان الطبيعة أكثر متعة. تتسلل طريق حديثة بين المنحدرات والمرتفعات والمنعرجات الجبلية مثل الثعبان، وعلى جانبي الطريق تنتشر الخضرة على إمتداد البصر خاصة أشجار الصفصاف والبامبو، وتمر أحيانا ببعض التجمعات السكنية الريفية على سفوح الجبال تتقدمها حقول صغيرة. بنيت هذه المنازل بجدران بيضاء وسقوف سوداء بطابق واحد أو بطابقين وتبدو مزودة بكل إحتياجات الحياة من إنارة وطرقات وهاتف. كلما إقتربت من إيميشان شعرت بأن رئتاك تمتلئان أكثر وبمزيد من الأكسيجين يتدفق إلى جسمك، فالمساحات الخضراء تمثل قرابة 60% من مساحة المدينة.

بعد رحلة شاقة وممتعة دامت ثلاثة ساعت ونصف وصلت الحافلة إلى الفندق مساءا. إستيقظنا في اليوم الموالي صباحا لزيارة جبل إيميشان أهم معلم طبيعي وثقافي في المدينة، وأحد أشهر أربعة جبال بوذية في الصين. مررنا بوسط المدينة، وهنا تختلف الحياة والعمارة وكل شيء عن مايمكن أن تشاهده في المدن الصينية الكبرى، لا زحام ولا إكتظاط، لا تسمع صخب الناس المهروعين إلى العمل ولاضجيج منبهات السيارات، تبدو الحياة هادئة والناس متحررين من الضغوط. يشد إنتباهك على جنبي الطريق عمارة المدينة، فعلى عكس غالبية المدن الصينية الأخرى، شيّدت المباني هنا على الطراز الصيني القديم، هناك منها من بني بسقوف سوداء مجنحة، لكن تأثير المعمار البوذي يبدو جليا على أغلب المباني، تشبه واجهة المباني قصر بودالا في التبت، بنوافذ عمودية ومستطيلة محاطة باللون القرمزي، اللون المحبذ لدى البوذيين، وجدران بيضاء وأسقف سوداء.

وصلنا سفح جبل إيميشان الذي يزيد إرتفاعه عن ثلاثة آلاف متر، ولكم تمنينا أن نصعده تسلقا، لكن وقتنا كان ضيقا، ولم نجد ابدا من صعوده بالحافلة، لكن المرشدة أخبرتنا بأن القرود التي تعيش في الجبل تحب مهاجمة المتسلقين وإفتكاك مالديهم من طعام. كان الطريق إلى القمة شديد الإرتفاع وحاد الإنعراج، لكنها محمية على جانب الجرف وتسمح بمروح سيارتين. لايمكن للحافلة أن تصل قمة الجبل، لذلك نزلنا عند المنتصف وإمتطينا "التيليفيريك" الذي نقلنا مسافة قرابة ألف متر إلى القمة. ونحن نركب التيليفيريك كان المشهد حولنا سرياليا وأسطوريا، لم أشاهد ذلك من قبل إلا في قصة علاء الدين حينما يركب البساط الطائر وأفلام هاريبوتر.

 كان الجبل أعلى من الغيوم، وفي إتجاهنا إلى القمة نشق أحيانا السحاب فيحجب عنا رؤية ماحولنا، تترائى لنا قمم الجبال الاخرى بارزة من وسط الغيوم مثل جزر منتشرة على عرض المحيط، ومع سرعة التيليفيريك ترى الغيوم والضباب يتدفق موجات موجات كأنها عاصفة محدقة.

 هناك علاقة روحية عميقة بين البوذية والجبال، فعلى مر التاريخ ظل الرهبان البوذيون يلجؤون إلى مثل هذه المناطق المهجورة التي يكتنفها الغموض والرهبة للتعبد وبناء المعابد هربا من صخب الحياة ومغرياتها.

 وصلنا القمة أخيرا، كان الجو باردا، لذا أحضرنا معنا ملابس شتوية. إستقبلنا درج مرتفع وطويل على جانبيه تماثيل للفيلة إحدى الحيوانات المحبذة في الثقافة البوذية، وفي أعلى الدرج تمثالا بوذيا ذهبيا يتجاوز طوله عشرين مترا، ويقابله في أسفل الدرج طاولة لإيقاد الشموع وطلب الأمنيات. يتقدم رهبانا حليق الرأس بلباس بوذي بوذي صفا طويلا من المتعبدين للطواف حول التمثال مرددين تعاويذ غير مفهومة. وخلف التمثال معبد بداخله تمثال، يجلس على يمين التمثال رهبان يلبس ملابس صفراء يقرأ كتابا بوذيا، وعلى اليمين رهبانيْن يقبلان التبرعات، يدخل المتعبد بساقه اليسرى فيسجد للتمثال، وحينما يسجد يضرب الرهبان الذي يجلس على اليمين بعصا صغيرة مثل المطرقة على آنية نحاسية مثل القدر فيصدر طنينا كبيرا لمباركة أمنية المتعبد. هناك من يأتي إلى جبل إيميشان للسياحة، وهناك أيضا من يأتي خصيصا للدعاء، وعادة مايقوم هؤلاء بدفع هبة مالية إلى المعبد راجين أن تتحقق أمنياتهم. وسواء كان الزائر سائحا أو متعبدا، فإن الجو هنا تغمره السكينة والهدوء ويشعر الناس برهبة المكان.

 بدى الفرق جليا، حينما زرنا معبد "دافو تشانيوان" و"معبد لينغ يون" بمدينة لهشان التي تبعد نصف ساعة عن إيميشان، فالناس يأتون إلى هنا بغرض السياحة وإلتقاط الصور ويتصرفون بعفوية أكبر. "معبد دافو تشانيوان" هو ثاني أشهر معالم مدينة إيميشان، يتكون من 5 قاعات كبرى، بنيت بشكل متتابع من الأمام إلى الخلف، كل قاعة بطراز معماري مختلف، ويفصل بين كل قاعة وأخرى باحة عريضة، وداخل القاعات توجد تماثيل مختلفة، وتزين سقوفها نقوش دائرية ملونة باللون الاخضر والأبيض والأزرق، أما "معبد لينغ يون" بمدينة لهشان فله خاصية فريدة، حيث جمع معماره بين الطراز الصيني لأسرة تهانغ الصينية ومعمار المساجد الصينية، وتشبه واجهته كثيرا واجهة مسجد نيوجييه ببكين، كما توجد على جدرانه بعض أقواس العمارة العباسية، ويعكس إنصهار المعمارالإسلامي والصيني في عصور الصين القديمة.

بجانب معبد لينغ يون وعلى ضفة تقاطع ثلاثة أنهار يوجد أكبر تمثال لبوذا في الصين، تقول الأسطورة أن سكان هذه المنطقة كانوا يعانون كوارث فيضان الأنهار الثلاثة، لذلك بنوا هذا التمثال ليحمي المدينة.

إعتمد مؤشر السعادة سابق الذكر على عدة مؤشرات رقمية، لكن في نظري سر سعادة سكان مدينة إيميشان يعود إلى التأثير الكبير الذي تمارسه البوذية على مختلف نواحي حياة الناس هناك، نلمس هذا التاثير في عدة مظاهر: فعلى عكس العديد من المدن الصينية الأخرى، شيدت مدينة إيميشان وفقا لتضاريس الطبيعة، ولم يعمل الإنسان هنا على تغيير أوإكتساح الطبيعة من أجل النجاعه الإقتصادية، فالبوذية تدعو إلى الإنسجام الإنسان مع الطبيعة؛ الناس هنا هادئين وقنوعين ولايعانون القلق والذعر النفسي الذي يصيب سكان المدن الصينية الكبرى، لي يوان صحفية في إحدى المؤسسات الإعلامية المحلية، تقول إن راتبها يمثل نصف متوسط الدخل في بكين وشنغهاي، لكنها لاتحب مغادرة مدينتها.

تعبر إيميشان عن إلتقاء الثقافة الروحية البوذية القادمة من الهند مع براغماتية الشخصية الصينية، وفي شوارعها نرى مختلف أنواع السيارات الباهظة، والمدينة تحقق سنويا نسب نمو جيدة وتعتمد أساسا على السياحة وإنتاج الشاي والصناعة الخفيفة.

ذكرتني إيميشان بدعوة الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس لإعادة الدين إلى المجال العام لتحقيق توازن الإنسان، ذكرتني بالتنمية الخضراء ومقاومة التغير المناخي هاتين القضيتين اللتين تؤرقان العالم الآن. إكتشفت فيها أشياء كثيرة لم أرها في مدن صينية أخرى، وأدركت أن الصين ليست بكين وشنغها وقوانغتشو، بل كذلك إيميشان. 


【1】【2】【3】【4】【5】【6】【7】【8】【9】【10】【11】【12】【13】【14】【15】【16】【17】【18】【19】

صور ساخنة

أخبار ساخنة

روابط ذات العلاقة

arabic.people.cn@facebook arabic.people.cn@twitter
×