عباس جواد كديمي |
بقلم: عباس جواد كديمي
في مطلع شهر مارس من كل عام، تسود الصين أجواء مميزة مع انعقاد دورتي المجلس الوطني لنواب الشعب(البرلمان)، والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني(المستشارون)، حيث تشهد البلاد طابعا سياسيا وتشريعيا وتشاوريا يتجسد في أهم الأحداث السنوية في الصين، حيث تتم مراجعة ومناقشة وإقرار السياسات الهامة، في وقت لم تعد فيه هذه الأحداث مهمة للصين فحسب بل للعالم أجمع، لما أضحت عليه الصين من مكانة لها تأثير متزايد في العالم. خلال السنوات العشر الأخيرة، شهد العالم تباطؤا للاقتصاد ثم تعافيا هشا للاقتصاد، وتعرض اقتصاد الصين، مثل باقي اقتصادات العالم، لتأثيرات هذه التباطؤ الاقتصادي، ولكنه يختلف عن الباقين باعتبار أنه حسب رأي المختصين الاقتصاديين في العالم وعلى ضوء ما حققه من منجزات بارزة خلال العقدين ونيف الماضيين، يمثل قاطرة للاقتصاد العالمي، وهو بذلك محط الأنظار والاهتمام في كل صغيرة وكبيرة. ومن هنا، يتعزز الاهتمام خلال السنوات الماضية وهذا العام بدورتي مجلسي النواب والمستشارين بالصين، لما ينتج عنهما من سياسات عامة وما يتعلق بالاقتصاد تحديدا. لذلك، لا غرابة في أن دورتي هذا العام تهيمن عليهما النقاشات الاقتصادية.
واقعية هدف النمو الاقتصادي
خلال هاتين الدورتين، تتركز الأنظار والآذان، لفعالية بارزة ربما تكون الأهم في جدول أعمال الدورتين، ألا وهي تقرير عمل الحكومة الذي يقدمه رئيس مجلس الدولة الصيني أمام نواب الشعب والمستشارين، حيث يلخص أعمال حكومته للعام المنصرم وأهدافها للعام الجديد، ويخضع لمناقشات النواب والمستشارين ومراجعاتهم وتمحيصاتهم. في الحقيقة، إن الصين ليست في معزل عن العالم، وهي تؤثر وتتأثر بما يجري في الأسرة الدولية، والعولمة الاقتصادية باتت العامل أو المجال الأبرز لهذا التأثير والتأثر. في العام الماضي، حددت الحكومة الصينية هدفا لنمو إجمالي الناتج المحلي عند رقم 7%، وكانت تأمل في تحقيقه، ولكنه لم يتحقق تماما، بل جاء الرقم عند 6.9%، وهو الأدنى على مدى 25 سنة مضت، حققت الصين خلالها نموا مزدوج الرقم وصل إلى 10% الأمر الذي جعل هذه المعدلات معجزة اقتصادية عالميا. إن عشر الدرجة هذا(6.9 وليس 7%) قد يكون ذا أهمية نسبية هنا أو هناك، ولكنه يشكل فارقا حسب المعطيات الدقيقة لاقتصاد كبير مثل الصين، الثاني عالميا حاليا. وإدراكا منها لمسئولية الصين كدولة كبيرة، وضعت الحكومة الصينية هذا العام هدفا للنمو يتراوح ضمن نطاق معين، وليس رقما محددا مثل الأعوام الماضية. وبعد الأخذ بالاعتبار كافة الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالاقتصاد الصيني، وضعت الحكومة هدف النمو بين 6.5-7%. المتابعون والمراقبون والمعنيون بتحليل ظروف الصين وإمكانياتها ومشاكلها والتحديات التي تواجهها، يرون أن سبب وضع الهدف ضمن مدى وليس رقما يعود إلى نظرة واقعية للظروف الاقتصادية بالصين والعالم، وسعي الصين لتحقيق تنمية نوعية وليس مجرد أرقام، وهذا يعطي الحكومة مساحة من المرونة لتحقيق هذا الهدف وأهداف هامة أخرى أبرزها تحسين معيشة الشعب. إنه هدف واقعي يمكن تحقيقه، على ضوء عوامل عديدة، منها:
عملية الإصلاح والانفتاح وتعديل الهياكل
لا يخفى على أحد أن القوة الدافعة المميزة لقاطرة الاقتصاد الصيني هي إجراءات الإصلاح والانفتاح التي بدأتها الصين عام 1978، وما تلا ذلك من حيوية تفاعلية للصين مع العالم. يمكن القول إن الصين تتميز عن غيرها بأنها تتمتع بمساحات شاسعة، أي سوق كبيرة جدا، وتعداد سكان هائل، وموارد كبيرة وافرة، والأهم من كل هذا هو جينات مسالمة لهذا الشعب، تسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وكذلك الاستقرار السياسي، وهي الأرضية الصلبة اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد والحفاظ على زخم التحرك وجذب الحيوية من الداخل والخارج خاصة الاستثمارات وتشاطر الخبرات والتجارب الناجحة، والتفاعل الضروري في عالم اليوم. عملية الإصلاح والانفتاح تعني أن الصين فتحت أبوابها للتعاون المتبادل المنفعة، بما يتماشى ويتلاءم وينفع البلاد والمتعاونين معها. وهذه العملية المستمرة منذ أكثر من 3 عقود، يتهيأ لها كل يوم ما يساعدها على الاستمرار، رغم ظهور العوائق والمشاكل والاحتكاكات هنا وهناك، أي أنها لم تتوقف ولا تتوقف، وبفضل فوائد هذه العملية، الصين قيادة وشعبا عازمة على أن مسيرة الإصلاح والانفتاح والتنمية السلمية لن تتوقف. مشاطرة التجارب الناجحة توفر للصين، ولكل من يريد الاستفادة من التجارب الناجحة في أي زمان ومكان، فرصة وإمكانية التطوير لكل ما هو قديم، أو كل ما لم يعد نافعا أو متماشيا مع تيار العصر. ويأتي تعديل الهياكل ضمن هذا الإطار، أي أن قطاعي الزراعة أو التصنيع مثلا، لم يعودا يتماشيان مع متطلبات العصر، ويجب تطويرهما بالمكننة والتقنية الحديثة، ليكونا مفيدين أكثر من استهلاكيين للموارد. وقد تكون مثل هذه العمليات التطويرية صعبة ومعقدة، حسب الظروف، ولكن لا بد من الواقعية والجرأة للتطوير. كل هذه العوامل توفر محفزات اقتصادية أكيدة للنمو في الصين، وتؤكد الثقة فيه.
الخطة الخمسية الـ13
من العوامل الواقعية الأخرى المحفزة لتحقيق هدف الحكومة الصينية بنمو إجمالي الناتج المحلي ضمن مدى 6.5-7%، هو المشاريع الطموحة للخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد(2016-2020)، وهذا العام هو الأول لتطبيقها. خلال السنوات الخمس المقبلة، سيتحول الاقتصاد الصيني من اقتصاد يعتمد على الصناعات والاستثمار إلى اقتصاد تقوده الخدمات والابتكار والاستهلاك. ومن بين مشاريع عديدة، هناك مشروعان كبيران يمكن الاكتفاء بالإشارة إليهما لإيضاح مدى الطموح والإمكانية لتوفير قوى دافعة للتنمية في الصين، وهما مشروع بناء خطوط السكك الحديدية العالية السرعة التي تمتد لأكثر من 10 آلاف كم، لربط أكثر من 80% من المدن الكبيرة بالصين، ومشروع تطوير شبكة الطرق السريعة في عموم البلاد، وهذه المشاريع في مجالات البنية التحتية المواصلاتية على سبيل المثال لا الحصر، إضافة لمشاريع الحضرنة الجديدة، توفر محفزات اقتصادية هائلة.
هدف المئوية الأولى
إن ما تسعى إليه الصين حاليا يختلف عما مضى، حيث تسعى اليوم إلى بناء مجتمع ذي معايير أعلى، وهو ما وضعته الصين ضمن مهمة بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل بحلول عام 2020، أي الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني الذي تأسس عام 1921. هذا الهدف واسع وطموح يتضمن تطوير وترقية برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والخدمات الطبية والخدمات المجتمعية ومنها خدمات لكبار السن، والعمل على تحسين دخل المواطنين وتحرير قوتهم الشرائية، وخطط حفز الاستهلاك والطلب المحلي وتعزيز دور قطاع الخدمات، وبرامج التطوير والإبداع والابتكار، وتعزيز البرامج الثقافية للمواطنين، وتحفيز تطور التعليم على نحو عادل ورفع نوعيته، وحماية البيئة وفكرة بناء الصين الجميلة. وهدف تحقيق التصنيع من حيث الأساس، ومنه برنامج "صنع في الصين 2025" وهو برنامج واسع داخليا وله علاقات شراكة تعاونية مع العديد من الخطط والبرامج العالمية، ومنها برنامج التصنيع في ألمانيا. وهذه الأهداف والمشاريع المرتبطة بها ستسهم بلا شك في مساعدة الحكومة الصينية لتحقيق هدفها بتوفير فرص العمل للمواطنين، ومنهم ملايين الخريجين الجامعيين كل عام، وهذه السنة بالذات 2016، تستهدف الحكومة توفير 10 ملايين فرصة عمل جديدة، وهو هدف ليس عصيّا، على ضوء ما تحقق خلال الأعوام الماضية بالمناطق الحضرية. وهذه بعض من العوامل الواقعية الكثيرة التي تؤكد أنه لا داعي للقلق على اقتصاد الصين.
مبادرة الحزام والطريق
هذه مبادرة واسعة ترتبط بالحلم الصيني والنهضة العظيمة للأمة الصينية، أطلقتها الصين عام 2013 على لسان رئيسها شي جين بينغ، لإحياء طريق الحرير القديم الذي أثرى التعاون التجاري والترابط الثقافي للصين والعالم قبل مئات السنين، وتفعيل طريق الحرير البحري للقرن الـ21. هذه المبادرة أصبحت تعرف اختصارا بـ(الحزام والطريق). إنها تشمل آسيا الوسطى وشمال أفريقيا وغربي آسيا وأوروبا الوسطى والشرقية، ويمكن أن تتوسع أكثر، فهي ليست محددة بمناطق معينة، وتغطي 65 دولة، وتعداد سكان يصل لـ4.4 مليار نسمة، واقتصادات يصل حجمها الإجمالي لنحو 21 تريليون دولار، أي أنها تغطي سوقا هائلة توفر فرص تعاون مزدوج المنفعة لكل من يريد المشاركة فيها. الصين تربط حلمها مع حلم العالم، وقد خصصت الإمكانيات والأموال اللازمة لتمويل المشاريع المعنية، وأسست مع الدول المعنية البنك الآسيوي للاستثمار بالبنية التحتية، رأسماله الأولي 50 مليار دولار، يموّل مشاريع كبيرة مفيدة لتوفير الأساس لمزيد من التعاون، وتوفير فرص العمل لملايين الناس. الصين لا تزال تلعب دورا حيويا في الاقتصاد العالمي، ولا تزال أيضا القوة الدافعة الرئيسية لنمو الاقتصاد العالمي. إن تقارير صندوق النقد الدولي المنشورة تظهر بأن الصين ساهمت بـ4ر32% في نمو الاقتصاد العالمي عام 2015، وتتوقع أن ذلك سيسهم بأكثر من 25% كمتوسط سنوي في نمو الاقتصاد العالمي في الفترة من 2016-2020.
ومرة أخرى نقول إن هدف الحكومة الصينية يمكن تحقيقه، ولا يوجد قلق، ولكن يوجد إدراك لحجم المسئولية والتحديات، وهو ما أشار إليه رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ حين اعترف في تقرير عمل حكومته أن الصين تواجه المزيد من الصعوبات والتعقيدات في مسيرة تنميتها هذا العام، الأمر الذي يوجب عليها الاستعداد لذلك.