الخرطوم 9 يوليو 2024 (شينخوا) رغم مرور ما يزيد على 9 أشهر علي مقتل ابنه البكر في قصف صاروخي استهدف سوقا محلية بمنطقة السلمة بجنوب العاصمة السودانية الخرطوم، ما يزال عبد السلام سليمان متأثرا بما حدث.
وقال سليمان (50 عاما) - وهو رب أسرة تتكون من 6 أشخاص (هو وزوجته وثلاثة أبناء وبنت) - " في صباح يوم 22 سبتمبر الماضي، أرسلت ابني البكر محمد (16 عاما) إلى مخبز مجاور لنا بحثا عن الخبز، لم أكن أعلم أنني لن أراه مرة أخري".
وأضاف بصوت متحشرج، ومغالبا دمعه " فقدت ابني من أجل توفير رغيف الخبز لأسرتي، وبدلا عن الرغيف عاد ابني إلى المنزل جثة هامدة".
وتابع ، في تصريح لوكالة أنباء ((شينخوا)) " هذه واحدة من صور الحرب العبثية وأكثرها مأساوية، لم يكن ابني مقاتلا ولا جنديا ولا سياسيا ولا دخل لنا بما يحدث، ولا نفهم أسباب هذا القتال، ولكنني وأسرتي واحدة من آلاف الأسر أو قل من ملايين الأسر التي دفعت تكلفة الحرب وما تزال تدفع".
-- جرح لن يندمل
وكأنه يقرأ من كتاب عن مأسي الحروب وفظاعتها، يضيف سليمان " كان بإمكاني أن أتحمل خسارة الممتلكات، أو المقدرات كلها، ولكن خسارة الروح عندي جرح لن يندمل، وسيبقي يدمي الذات ويزيد من وجعها ويسلبها طعم الحياة".
وانعدام الخبز، أو صعوبة الحصول عليه واحدة من تأثيرات الحرب علي الحياة العامة لسكان الخرطوم الذين اضطرتهم عوامل عدة للبقاء تحت القصف وبين النيران، دون أن تتوفر لهم سبل الحياة.
وقال سليمان، وهو معلم بالمرحلة الثانوية " منذ اندلاع الحرب كان قرارنا البقاء في منزلنا، وأسباب هذا القرار متعددة، لم تكن لنا موارد مالية للخروج إلى أي مكان آخر، وأنا مريض بالسكري ولا تتوفر مراكز علاجية متطورة في الأقاليم".
وأضاف " ليس لدينا أهل في المناطق التي كان متاحا النزوح إليها، بعض أهلي في دارفور، ولكنك تعلم أن دافور وضعها ليس أفضل من الخرطوم وربما كان أسوأ".
ومنذ بداية القتال في الخرطوم في 15 أبريل 2023، توقفت عشرات المخابز في منطقة جنوب الخرطوم، وتعرض بعضها للقصف العشوائي، أو اضطر أصحابها لإغلاقها بسبب الوضع الأمني أو انعدام الطحين وعدم توفر الكهرباء والغاز.
وقال سليمان " قبل اندلاع الحرب كانت هناك نحو 7 مخابز في منطقة السلمة، حيث نسكن والأن هناك مخبز واحد ما يزال يعمل بطاقة إنتاجية ضعيفة".
وأضاف " انقطاع الكهرباء لأيام، وعدم توفر غاز الطبخ، وصعوبة الحصول علي صنف الطحين المخصص للخبز، أدت إلى توقف عمل المخابز".
-- معركة يومية من أجل البقاء
ويصف سليمان حياة سكان المنطقة بجنوب الخرطوم بأنها " معركة يومية من أجل البقاء، طابعها الخوف والجوع".
وقال " هذه معركة يومية نعيش تفاصيلها، نتنازع ما بين الجوع الذي يضطرنا للخروج للبحث عن طعام نسد به رمق أطفالنا، ولكن الخوف من الموت المنتشر في الشوارع إحساس مخيف، ويمكن أن تدفع حياتك ثمنا للغذاء كما حدث لأبني".
ويمتلك عبد العظيم خالد (65 عاما) مخبز (الخلاوي) بمنطقة (السلمة) بجنوب الخرطوم، وهو يعمل بهذه المهنة بما يزيد عن 25 عاما، ولكن الحرب زادت من صعوبات عمله.
وقال خالد لـ ((شينخوا)) " قبل الحرب كنا نقوم باستهلاك 30 جوال دقيق في اليوم، وينتج الجوال نحو 1200 قطعة خبز، الآن تناقص الإنتاج وقلت الطاقة الإنتاجية للمخبز، وفي المتوسط ننتج يوميا نحو ألفي قطعة خبز، وفي أيام قد لا يتعدي الإنتاج 500 قطعة فقط".
وأضاف " العقبة الرئيسية هي انقطاع الكهرباء وعدم توفر الغاز، بدأنا في استخدام الأفران التقليدية القديمة التي تعمل بالحطب، وهذه بطيئة جدا، وإنتاجها من الخبز ليس جيدا".
وتابع "ومن الصعوبات ايضا صعوبة الحصول علي الدقيق الجيد الذي كنا نستخدمه قبل الحرب، ومن المؤكد أن الوضع الأمني أيضا يشكل أكبر عقبة لاستمرار عملنا، كما أن العمالة غير متوفرة الأن بسبب النزوح الكبير للأيدي العاملة".
وأشار إلى أن مخبزه تعرض مرتين لمحاولات النهب من قبل عصابات محلية تنشط في المنطقة وتسمي (النيغرز)، وفي المرتين تمكنا وبمساعدة الجيران من التصدي لهؤلاء بالسلاح الناري.
ووفقا لبرنامج الغذاء العالمي فان الحرب المستمرة في السودان " قد تخلف أكبر أزمة جوع في العالم"، بينما يشهد السودان، وفقا للأمم المتحدة، أكبر أزمة نزوح على المستوى الدولي.
وفي وقت سابق ، حذرت الأمم المتحدة من مجاعة وشيكة في السودان بعد دخول الحرب عامها الثاني بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي خلفت ما يزيد عن 13 ألف قتيل وجعلت 25 مليون شخص في حاجة ماسة إلى المساعدات.
-- تدهور أوضاع الأسر
وبينما تستمر الحرب ، تزداد أوضاع الأسر المقيمة بالخرطوم تدهورا، وتتآكل الموارد المالية في ظل عدم صرف رواتب الموظفين والعمال، وتوقف التحويلات المالية عبر التطبيقات البنكية بسبب استمرار انقطاع الإنترنت في مناطق مختلفة من العاصمة، وتوقف معظم أفرع المصارف بالخرطوم.
وتقول سارة الفاضل، وهي موظفة بالقطاع العام أنها لم تتلق أي راتب منذ أبريل 2023.
وتضيف سارة (38 عاما)، وتقيم بمنطقة الأزهري بجنوب الخرطوم لـ ((شينخوا)) " حتي الأن فشلت وزارة المالية في توفير المرتبات لغالبية موظفي القطاع العام، ولا نعرف كيف ندبر وضعنا في ظل غلاء الأسعار".
وتشير سارة إلى أنها أم لثلاثة أطفال وهي مسؤولة عن رعايتهم بسبب أنها أرملة إذ توفي زوجها قبل عامين .
وقالت " أطفالي صغار، ولديهم احتياجات متعددة، ولا استطيع توفيرها بسبب عدم توفر المال، أعتمد علي راتبي، ولم أتحصل عليه منذ عام، هذا وضع صعب للغاية".
وتابعت " لدي أقارب خارج السودان كانوا يساعدونني عبر تحويل مبالغ مالية من وقت لآخر، هذا لم يعد متاحا الأن بسبب انقطاع الإنترنت وتوقف التحويلات عبر التطبيقات البنكية ومنها خدمة (بنكك) التابعة لبنك الخرطوم، وخدمة (فوري) التابعة لبنك فيصل".
وتحاول سارة الحصول على المال من خلال بيع أصناف من الطعام أمام منزلها بحي الأزهري، ولكنها تواجه صعوبات مرتبطة بالوضع الأمني وكذلك بتأثيرات الصراع الاقتصادية.
وقالت " أقوم بصناعة أطعمة لا تحتاج إلى كثير من العناء ومنها ساندوتشات الفلافل والفول والبيض، وبيعها في كشك صغير جوار منزلي".
-- مخاطر أمنية
وتضيف " ولكني أوجه صعوبات عدة، لا يتوفر الخبز لصناعة السندوتشات، وأحاول إيجاد حل للمشكلة من خلال صناعة الخبز بالمنزل بوسائل بدائية، ولكني أواجه أيضا صعوبة في الحصول علي الطحين وانعدام الغاز والكهرباء".
وزادت " ومن الناحية الاقتصادية فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية كلها وهو ما يجعل العائد من بيع الأطعمة ليس مجديا، كما أني أواجه مخاطر أمنية واحتمال التعرض للقصف العشوائي المستمر أو حتي الاعتقال من قبل مجموعات عسكرية منتشرة بالخارج".
وتابعت " أجد نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما، والمفارقة أنهما يؤديان إلى نتيجة واحدة وهي الموت، فإما البقاء بالمنزل ومواجهة خطر الموت جوعا، أو الخروج إلى الشارع واحتمال الموت برصاصة طائشة أو قذيفة مجهولة المصدر".
وتعتبر العاصمة السودانية الخرطوم، واحدة من مناطق الصراع التي تتواجد بها الفئات السكانية الأكثر تأثرا بانعدام الأمن الغذائي.
وما تزال منطقة جنوب الخرطوم تمثل المنطقة الرئيسية التي تشهد مستويات عالية من العنف المنظم، وتسيطر قوات الدعم السريع على كامل المنطقة، مما يجعلها عرضة لمواجهات مستمرة، ومركزا لإطلاق القذائف الصاروخية من قبل قوات الدعم السريع، فيما يرد الجيش السوداني عبر القصف الجوي من خلال الطائرات الحربية والمسيرات.
ووفقا لتقييم للأمم المتحدة نشر مؤخرا فقد تراجع أداء الاقتصاد السوداني بسبب الحرب بنسبة 42 %، فيما توقع صندوق النقد الدولي انكماشا بنسبة 18% هذا العام.
-- خسائر الاقتصاد السوداني
وتوقعت دراسة أجراها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية أن تبلغ خسائر الاقتصاد السوداني بسبب الحرب 15 مليار دولار بنهاية العام الحالي، أي ما يعادل 48 % من الناتج المحلّي الإجمالي.
وتراجع انتاج الذهب، وهو أهم الصادرات التي يعتمد عليها السودان، من 18 طنا في العام الماضي إلى طنين فقط هذا العام، وفقا لبيان سابق للشركة السودانية للموارد المعدنية.
واشار تقرير سابق للبنك الزراعي السوداني، وهو مصرف حكومي يختص بتمويل النشاط الزراعي بالسودان، إلى تناقص المساحة المزروعة فى البلاد بنسبة 60% عن السنوات السابقة.
ووفقا لتقارير اقتصادية فإن الحكومة السودانية لم تسدد ما قيمته حوالى 40.7 مليار جنيه سوداني، هي جملة صافي رواتب العاملين في القطاع العام لعدد 859 ألف موظف وعامل بالمركز والولايات منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل 2023.
ووفقا لتقارير صادرة أخيرا عن وزارة المالية السودانية فإن نسبة إيرادات الدولة انخفضت بنسبة 85 % بسبب الحرب.
وأدت الحرب إلى توقف ما لا يقل عن ألف منشأة اقتصادية عن العمل، وجميعها تعمل في مجالات الصناعة والتجارة والغذاء والدواء بسبب التدمير الكلي أو الجزئي والنهب والإحراق.
ومنذ اندلاع القتال في أبريل 2023، يواصل الجنيه السوداني تراجعه المستمر أمام العملات الأجنبية، ويبلغ سعر الدولار مقابل الجنيه حاليا 1800، فيما كان قبل الحرب نحو 600 جنيه.
-- ارتفاع معدل البطالة
وذكرت إحصاءات لصندوق النقد الدولي، بأن الحرب تسببت في رفع معدل البطالة في السودان من 32.14 % فى العام 2022 إلى 47.2 % العام 2024.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولى، ارتفع معدل التضخم في السودان إلى 256.17 %، وهو ما يعنى ارتفاعها بنسبة 117.4 %، فيما لا تصدر الحكومة السودانية أي تقارير بشأن معدل التضخم في ظل الحرب.
وحذر تقرير دولي صدر مؤخرا من خطر حدوث مجاعة في 14 منطقة سودانية، إضافة إلى مستويات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي الحاد بأنحاء البلاد.
وذكر التقرير أن "التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي" والذي نشرته الأمم المتحدة أمس بعد 14 شهرا من الصراع، يواجه السودان أسوأ مستويات من انعدام الأمن الغذائي الحاد".
ووفقا للأمم المتحدة، فقد بلغ العدد الإجمالي للنازحين في السودان منذ اندلاع القتال منتصف أبريل 2023 إلى نحو نحو 7.3 مليون شخص.
كما أدت الحرب إلى لجوء نحو مليوني شخص إلى دول الجوار، وخاصة مصر وإثيوبيا وتشاد وأريتريا وجنوب السودان، وفقا لتقارير سابقة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لـ((أوتشا)).
ومنذ منتصف أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربا خلفت نحو 13 ألفا و 100 قتيل، حسب الأمم المتحدة.