بقلم/ تشانغ مياو ران، قسم اللغة العربية في كلية اللغات الأجنبية بجامعة الدراسات الأجنبية ببكين
حاصل على جائزة التفوق في المسابقة الوطنية لكتابة المقالات حول مبادرة " الحزام والطريق"
إن إيماني بحتمية نجاح مبادرة الحزام والطريق نابع من اطلاعي على التاريخ القديم لهذا الطريق. فقد زرت يومًا متحف الحرير بهانغتشو وقد أعجبتني كثيرا معروضاتُه الفنية الرائعة. وما الذي ترك في ذهني أعمق انطباع هو القطع الحريرية الزندنيجية، وزخرفة شجرة الحياة الفارسية، التي سجّلت بوضوح وصدق التبادلاتِ التجارية والثقافية بين الصين والخلافة الإسلامية. فالحرير، باعتباره رمزا صينيا تقليديا، نشأ في موطنه لكنه ازدهر على طول طريق الحرير الذي شهد بصماتِ قدمه.
كما قرأت بعض المؤلفات التاريخية الصينية والعربية، فوجدت في كل من ((مروج الذهب)) للمسعودي وكتاب ((البلدان)) لابن الفقيه و((تحفة الألباب ونخبة الإعجاب)) لأبي حامد الغرناطي إلخ... أوصافا لإقبال العرب على شاي الصين وخزفها ومسكها، ولتصويرهم لترامي أطرافها، وغنى خيراتها، وفضائل حكمائها، وحسنات شعبها، وإعجابهم بصناعة الصينيين التي تُعَدُّ الأكثر براعة عالميا. وفي الوقت نفسه، لم تغب مثل هذه التسجيلات في المدونات التاريخية الصينية. ففي أحد فصول كتاب ((تاريخ أسرة سونغ)) الذي يتطرق إلى الرحلة المنطلقة من تشيوان تشو ((مدينة الزيتون كما دعاها العرب في ذلك العصر)) إلى بلاد العرب، صورٌ إيجابية عن الدولة العباسية تشير إلى تنوع منتجاتها، وفخامة قصورها، وشجاعة جنودها، ومهارة حِرَفييها، وغنى أسواقها بالأحجار الكريمة والأقمشة الفاخرة.
ومن مراجعة هذا التاريخ، يتراءى لنا أن التبادلات التجارية والثقافية على طول طريق الحرير فتحت قنوات واسعة لعلاقات صداقة حقيقية بين الطرفين، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
من هنا، نرى أن تاريخَ طريق الحرير تاريخٌ مشترك كتبه كلا الشعبين الصيني والعربي. ونتساءل هنا هل لذلك التاريخ أصداؤه؟ وهل لطريق الحرير روحه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي تلك الروح؟ وما هو الدور الذي سيلعبه في تعزيز التعاون الصيني العربي اليوم؟
إن من أهم القيم التي حققها طريق الحرير – على سبيل المثال لا الحصر – الانفتاح على الآخر والتعاون للكسب المشترك، والتكامل بين الجانبين، ماديا ومعنويا، القائم على مبدأ الاحترام المتبادل. فلا ضغط، ولا إكراه، ولا غطرسة من قبل طرف على الطرف الآخر. على عكس ذلك، فثمة بعض الصينيين اعتنقوا الإسلام، الذي جاء به العرب إلى الصين، كما أن هناك بعض العرب أعجبوا بحوكمة الإمبراطور الصيني فمثلوا بين يديه لتقديم الولاء أو لدراسة العلوم والتقنيات الصينية أو للتعمق في الكونفوشية، حتى إنهم شاركوا في الاختيارات الإمبراطورية ثم تولوا مناصب حكومية عالية وشاركوا في تأليف الكتب الرسمية مثل لي يان شنغ وشان سي وهما من جذور عربية.
ولم تحدث على طول هذا الطريق مأساةٌ مؤسفة، كما حدث في بلاد العرب أيامَ الحروب الصليبية، إذ شكّل الغرب عصابة من الوجهاء والصعاليك كانت تنهب وتهدم تحت راية "الهدى والجهاد"، وتغتصب موارد العرب وخيراتهم، وتراثهم الثقافي، والأدبي والعلمي. وبلغت نزعة القوة هذه ذروتها في كلمة البابا أوربان الثاني التي شوّه فيها صورة المسلمين، حين زعم دون أدنى منطق أو خجل ((كيف نجوع نحن، في حين يتمتع الشرق غير البعيد بغاية الترف والرفاهية ويتراكم فيه الذهب والعطور والفلفل!))
اليوم، يُعِيدُ التاريخُ نفسَه، ولكن بصورة مختلفة، فنرى الغرب – الذي أصبح يتمتع الآن بالغنى والرفاهية – يتزيَّأ بثوب الحمل، ويُعلن استعداده لمساعدة العالم العربي، في التخلص مما يعاني منه من اضطرابات، وضعف، وفقر وجوع. مع أن جلّ ما يعاني منه العرب اليوم هو نتيجة للاستعمار والاستغلال الغربي.
ونشير هنا إلى المبادرة الغربية المسمّاة ((إعادة بناء عالم أفضل)) التي قدّمها الغرب بديلا عن مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي وعد فيها بتقديم الاستثمارات في البنية التحتية للدول النامية، كما تفعل المبادرة الصينية. وقد أفاد البيت الأبيض، أن مبادرتهم هي "برنامج ذو مستوى أعلى من حيث حقوق الإنسان والبيئة والتكنولوجيا وهو يتحرك بقيم تُمَثِّلُها الدول الديمقراطية الرئيسية".
وبمقارنة هذه المبادرة مع المبادرة الصينية، نجد أن الغرب يربط مساعداته واستثماراته بشروط قاسية ترمي إلى إعادة السيطرة على العالم العربي، وحرمانه من حريته واستقلاليته في اتخاذ القرار والمواقف. في حين أن المبادرة الصينية لا تُملي أية شروط، وتقوم على أساس المساواة والندّية واحترام الغير، وعلى أساس المنفعة المتبادلة. فالغرب، باسم "الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان" يظهر غطرسته وجبروته بشكل سافر. وبالطبع، فإن هذا لا يعني أنني مناهض لحماية حقوق الإنسان أو مكافحة الفساد، بل أقصد التشكيك في وفاء الغرب بوعوده. فهل ستكون الإعانات المصحوبة بالشروط القاسية مساعدة حقيقية للدول العربية، تعود على شعوبها بالخير، أم هي مجرد وسيلة جديدة للضغط والسيطرة على هذه الدول؟!. فكم من التمويل الغربي يذهب لدعم المنظمات التي تعمل لمصالحها السياسية الخاصة بدلا من أن يذهب لتطوير الصناعة وإيجاد فرص عمل في الدول النامية!
أرجو ألا يفهمني أحد فهما خاطئا، فأنا لا أرمي إلى احتقار الثقافة الغربية، ولكن، كما قال إدوارد سعيد في كتابه ((الثقافة والإمبريالية)): "عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل خمسمائة سنة بين الأوروبيين وغيرهم، نجد أن هناك مفهوما جوهريا مستقرا تماما وهو "نحن" و"هم"، وكلاهما جلي، مبين لذاته، وشاهد على ذاته، بشكل حصين ومنيع. وهو انقسام يعود تاريخيا إلى الفكر اليوناني عن البرابرة." باختصار، فإن هذا العنصر النفسي الثقافي، أي أولوية "الذات" على الغير، متأصل في مفهوم التبادل للغربيين. ففي الماضي، ادعى الغرب أن المسيحية أفضل من الإسلام، والآن هم لا يصرحون بهذا النوع من التجبر، مع أنه مستقر في خفايا نفوسهم، لكنهم يعلنون بصراحة، أن قيم "العالم الحر" – كما يدعون – أفضل بكثير مما هي عليه في العالم العربي. ومن الجلي أن هذا العنصر لن يُسهِم في التبادلات المتساوية والسلمية.
في الجانب الآخر، نجد مبادرةَ "الحزام والطريق"، تتمسّك بمبادئ " التشاور والمشاركة للبناء المشترك" التي تضرب بجذورها في التاريخ والخبرات المتراكمة. ففي مشروع طريق الحرير الجديد، تتقاسم فرص التنمية السريعة مع العالم بشكل متساوٍ كما كانت في القديم. ونشير هنا إلى ما قاله بيتر فرانكوبان، وهو مؤرخ مشهور يعمل في جامعة أوكسفورد، في كتابه ((طريق الحرير: تاريخ جديد للعالم)) إذ يقول: "بطرْح فكرة الحزام والطريق عامَ 2013، يأمل الرئيس الصيني شي جين بينغ في إحياءِ ذكرى طريق الحرير القديم الذي كان مزدهرا متناغما، لتظل روحُه حاضرة في قلوب الشعوب التي تعيش على طوله. فهو تابع خطواتِ الرحالة والأوائل من الأسلاف الذين حملوا معهم البضائع والأفكار في تنقُّلاتهم، ليَبْنِيَ عليها خطوط تواصل جديدة تربط الصين بالدول الأخرى". وتلك الخطوط لا إكراه فيها، لا شروط إضافية، ولا مواجهة ضد الأطراف الأخرى، ولا تهدف إلى تدعيم القوة السياسية للصين على حساب الدول الأخرى، كما هو الأمر في خطة مارشال، بل تهدف إلى معالجة نقاط الضعف والشكوى الحقيقية التي تواجه الأطراف المشارِكة في مسيرة تنميتها لتحقيق التكامُل والعدالة بين الطرفين.
تَوَدُّ الصين استثمار احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية وتشغيل قوة إنتاجها الفائضة، في حين أن معظم الدول العربية تتطلع إلى الاستثمارات والمساعدات في مجال البنية التحتية. وتحقق مبادرة "الحزام والطريق" هي بالذات رغبة الطرفين، فلا ضرورة لفرض شروط إضافية على مبدأ التعاون الهادف إلى معالجة المشاكل المُلِحّة.
وبالطبع، فإن ما تقدم لا يعني أن المبادرة الصينية لا تكترث إلا بالفوائد المادية السريعة ولا تسهم في بناء عالم أفضل سياسيا واجتماعيا وبيئيا وأخلاقيا. ولا ننكر أن هناك بعض المسائل تنتظر التفاوض والتسوية، ضمن عملية بناء بعض المشاريع المخطَّطة مثل: كيفية تقليل التلوث للبيئة المحلية وزيادة الاهتمام بتأهيل السكان المحليين وتوظيفهم. بينما الصين تظل تبذل الجهد الجهيد لتحسين مشاريعها. ففي يناير هذا العام، أصدرت الحكومة الصينية ((رأي حول دفع التنمية الخضراء للحزام والطريق)) لِحَثّ الشركات على حماية البيئة في مشاريعها الخارجية حسب المعايير الدولية العامة أو أعلى منها.
أما في الواقع الحي، فنلاحظ أن مزيدا من العمال المحليين الذين يحظون بالتدريب المهني من الشركات الصينية يشاركون في البناء سواء في مشروع ((العاصمة الإدارية الجديدة)) بمصر أو في ((مشروع نور)) بالمغرب، وإلخ...
يدعونا ما حققناه اليوم للعودة إلى التاريخ والتأمل فيه، فنتوصل إلى أن الدعم الحكومي هو عنصر رئيسي لازدهار طريق الحرير. إذ نجد في ((كتاب أسرة سونغ)) أنه سبق لحكّام ذلك العصر أن خفّضوا الضرائب للتجار العرب وأعطوهم الأفضلية. وبالمقابل فقد سمح الخلفاء العباسيون، للعُملة النحاسية الصينية بالتداول داخل بلادهم...
باختصار، فإن التنسيق والتشاور واتخاذ التدابير اللازمة، على مستوى القيادات تُعَدُّ من مستلزمات إحياء طريق الحرير وروحِها. وهذا ما نشاهده اليوم بين قادة الطرفين، فهم يخططون لعقد ((القمة الصينية العربية)) التي ستكون فصلا حاسما في مسيرة العلاقات الصينية العربية وستفتح آفاقا جديدة واعدة للتعاون بين الجانبين.
ونتطلع إلى أن يتبادل القادةُ الآراءَ والرؤى وأن يعملوا على تحسين التعاون الحالي وتطويره وتحقيق الترابط على نحو أفضل وأعمق. فمثلا: يمكن للجانبين وضعُ خطة مشتركة لتشجيع الشركات الصينية على استيراد المنتجات الزراعية العربية المتميزة مثل البرتقال والعنب وعصير الرمان في ظل تزايد حاجات الصينيين للفواكه العالية الدرجة. ويمكن أن يتعاضد الطرفان لفتح آفاق أوسع لنقل التكنولوجيا، مثل تكنولوجيا تربية المواشي والدواجن وتكنولوجيا صنع الأدوية. كما يمكنهما توحيدُ نظام الإشراف على المشاريع، والمعايير الهندسية إلى حد كبير. ونأمل كذلك أن يتم بناء آلية مشتركة للتحكيم في المنازعات حول عقود الاستثمار في المستقبل...
أثق بأن هذا لا يُعَدُّ من باب التفاؤل الخيالي، بل هو تفاؤل منطقي، لأن الحزام والطريق الذي يقام على أساس الانفتاح والمساواة، له ميزة واضحة وقدرة على التصدي للتحديات المتغيرة التي تواجهنا وتحقيق المكاسب المشتركة مقارنةً مع تلك المبادرة التي أطلقها الغرب والتي تقوم على أساس القوة والفرض، وعلى التمييز بين الـ "أنا" و"الآخر" أو بين "الدول المتقدمة" و"الدول المتخلفة" وهو ما يشكّل بيئة خانقة لـ "التعاون".
من كل ما سبق، يمكنني القول: إنني على ثقة تامة أن مشروع الحزام والطريق الذي يستلهم روح طريق الحرير القديم سيحقق النجاح والازدهار، سيشرق ويتألق أكثر في المستقبل وخاصة بعد عقد "القمة الصينية العربية".