د. وليد عبدالله، باحث وكاتب
لقد كشف لنا وباء فيروس كورونا المستجد حقيقتين حول العالم. اولا، ان العالم قد بلغ مرحلة غير مسبوقة من الترابط، في اطار مايُعرف بالعولمة. وثانيا، ان دول العالم باتت عاجزة على تحقيق الاجماع واتخاذ تحركات موحدة لمواجهة الازمات، وذلك حتى بين الحلفاء والتكتّلات التقليدية المعروفة، كالاتحاد الاوروبي.
ان هاتين الحقيقتين تحيلاننا الى استنتاج غريب بعض الشيء، وهو ان العالم بات يتحرك في اتجاهين متناقضين، هما الترابط والتفكك في ذات الآن. فمن جهة تقوي العولمة من متانة حبال الوصل بين مختلف الدول وتشدّها ببعض بشكل مستمر؛ ومن جهة ثانية، تتشقق عُرى الاحلاف والتكتّلات الدولية وتتفكك بوتيرة تبعث على الحيرة والتساؤل. تماما مثل مايحدث في الاتحاد الاوروبي، وكذا تباعد الفجوة بين الاختيْن امريكا واوروبا؛ اضف الى ذلك عجز المنظمات الدولية عن حلحلة القضايا العالمية. ولنا أن نتسائل، لماذا تتراجع قدرات النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويتجه نحو التفكك في الوقت الذي يتزايد فيه مستوى الانفتاح والترابط بين مختلف دول العالم؟
لقد ظلت الدول الغربية خلال مايزيد عن السبعين عاما التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، لاتتوقف عن دعوة العالم الى الانفتاح واقتصاد السوق وحرية التجارة والحرية والديمقراطية، بل إنها لم تتورع في بعض الاحيان حتى عن فرض ذلك عبر المؤسسات الدولية والحروب. وقد كان العالم "المنفتح والحر" مركز الخطاب القيمي للدول الغربية، الذي مافتئت تبشّر به وتقنع به العالم. فماذا حدث اليوم لامريكا وعدة دول غربية اخرى لتتراجع عن الدفاع على عالم منفتح و"حر"، بل على العكس تبادر للانعزال ومعارضة العولمة، وتتراجع رغبتها في الاجماع والتعاون الدوليين؟!
في الحقيقة، لقد اخطأ النظام الغربي شديد التأثر بافكار آدم سميث والداروينية الاجتماعية في فهم مسار حركة العالم المنفتح، وتصور بأن امريكا أوالغرب بصفة عامة، سيمثل دائما الخيار الاصلح للطبيعة، وسط عالم منفتح وحر وخال من الحواجز، وأن العالم الغربي بقيمه ونُظمه ومؤسساته هو التعبير الانجع لحركة التطور الطبيعي للعالم. وقد تغذّى هذا الشعور خاصة بانتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة، والذي ادّى الى ظهور نظرية "نهاية التاريخ".
لكن هيهات! لقد انتصر هيغل على داروين في تفسير التاريخ، اذ لم يبق الضعيف ضعيفا، ولم يعد القوي هوالاقوى. لقد انتجت العولمة عالما مختلفا عمّا كان يترقبه الغرب، عالما منفلتا عن الهيمنة الامريكية الغربية والمؤسسات الدولية. وبتنا نعيش عالما متعدد الاقطاب واكثر تنوعا. عالما مترابطا باحكام لكنه فاقدا لروح الاجماع والنظام، منفتحا لكنه غير متماسك. وهذه هي الحقيقة التي عرّاها وباء كورونا، وكشفها امام جميع الناس. وهي مكمن القلق الذي ينتابنا اليوم تجاه مستقبل العالم، سيّما عالم مابعد كورونا.
انفلات يثير القلق حول المستقبل
هناك ثلاثة معضلات خطيرة تلقي بنفسها امام طريق عالمنا الحالي، تثير قلقنا حيال المستقبل وتجعلنا اقلّ قدرة على التنبؤ بماتخفيه السنوات القادمة، فيما يلفُ الضباب وعدم اليقين مجال رؤيتنا لمسارات واحتمالات العلاقات بين دول العالم.
اولا، الموقف الامريكي من النهضة الصينية: لايخفى على احد اليوم، التقهقر الخطير الذي بلغته العلاقات الصينية الامريكية، خاصة بسبب الحرب التجارية التي اطلقتها امريكا، وما رافقها ايضا من تدخل امريكي في القضايا الصينية الداخلية، مثل هونغ كونغ، وتايوان وشينجيانغ. وحتى فترة الوباء، هذه المحنة الانسانية العالمية المشتركة، لم تجلب الامل في علاقات ودية، ولم تفرض حتى اجماع الضرورة. بل على العكس، تحول الوباء نفسه الى شبه ازمة سياسية، يتحمّل فيها ترامب المسؤولية الرئيسية. وليس لديّ هنا الكثير لأضيفه لمايرد يوميا في وسائل الاعلام والتحاليل حول واقع العلاقات الصينية الامريكية. وصحيح بأن العلاقات الصينية الامريكية لم تكن يوماما في وضع جيد. لكن الاختلاف الجوهري اليوم، يتمثل في تغيّر اصل الصراع، من الرغبة في تغيير الصين الى العمل الى على احتواء النهوض الصيني.
فقد فشلت جميع تكهنات ومحاولات امريكا كدولة عظمى في تغيير طبيعة النظام السياسي والاجتماعي في الصين، مثلما فعلت ونجحت في دول اخرى في العالم سابقا. أما الان، فان مايحرك السياسة الامريكية تجاه الصين، هو شعور التنافس والرغبة في احتواء قوة ونفوذ دولة عظمى مثلها.
ثانيا، تبعات الوباء على عالم منهك بالازمات: هناك حقيقة مؤسفة ومحبطة للعالم في الوقت الحالي، وهي ان رغم عظمة انجاز اي دولة في القضاء على الوباء داخلها، لكن العالم لن يعود الى حركته الطبيعية الا بعد القضاء على الفيروس في مختلف دول العالم. وكل مايمكن ان تفعله كل دولة في الوقت الحالي هو ان تقضي على الوباء داخلها ثم تدخل في شبه عزلة عالمية، بانتظار اكتشاف لقاح وطرحه مجانيا او باسعار زهيدة لمختلف سكان العالم. وهذا قد يأخذ مدة تصل الى السنة او اكثر. في المقابل، لايمكن تقدير او توقع التكلفة الاقتصادية والاجتماعية التي ستمنى بها كل دولة الى وقت القضاء على الوباء من العالم نهائيا. سيفقد الكثير في كل دولة وظائفهم، وسينزل المزيد الى اسفل خط الفقر، وقد يشكل الوباء سلسة من الدومينو الاجتماعي والسياسي، تهدد استقرار العديد من الدول، وتدفع ربما الى بروز المزيد من التيارات الشعبوية، والتي قد تزيد من تفكك روح الاجماع والنظام في العالم مستقبلا. وعليه، فاذا لم ينجح العالم في القضاء على الوباء في اسرع وقت ممكن، فإن تبعاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الدولية قد تستمر لسنوات قادمة.
ثالثا، الشعبوية: في وقت يفقد فيه العالم روح الاجماع والنظام، ويعاني ركودا اقتصاديا طويلا، تتصاعد التيّارات الشعبوية التي تتبنى خطابا معاديا للاخر، وتمسك بمقاليد السلطة في عدة دول، من بينها دولا كبرى. وقد تؤدي تبعات الوباء الاقتصادية والاجتماعية الى زيادة انعاش هذه التيارات في المزيد من الدول. وحينما يجتمع الانقسام الدولي واللانظام والصراع بين الدول مع الشعبوية والتعصب، فاننا لانبالغ ان عبرنا عن خشيتنا من انجرار العالم الى حرب كبرى في المستقبل. سيما وأن فترات التحول الكبرى ، عادة ماتمثل المناطق الرخوة في التاريخ، والتي يسهل فيها تدحرج الدول نحوى الحروب.
ماذا يمكن للصين ان تفعل لعالم مابعد كورونا
كشفت محنة كورونا المستجد مفارقات عديدة، تعكس واقع العالم الذي نعيشه واتجاهه المستقبلي. وعرّت لنا الوجه الحقيقي للعديد من الدول الكبرى، والذي ربما كان يختفى تحت صخب الشعارات والخُطب ووسائل الاعلام. لقد رأينا ايطاليا تغرق وحدها، وتطلب النجدة من اشقائها الاوروبيين والامريكيين، لكن لاحياة لمن تنادي. ورأينا الرئيس الصربي يبكي امام الكاميرا مرارة الخيبة التي مني بها من الاتحاد الاوروبي. رأينا العالم يحترق بأكمله، والدول الصغيرة تستغيث، لكننا لم نر اليد الامريكية تمتد للمساعدة. لقد كانت امريكا غائبة عن هذا العالم الذي تحرص على ان تتزعمه وتقوده، حينما كان هذا العالم في امسّ الحاجة اليها. لكن المثير للسخرية أن امريكا لم تكتف بالتفرج على معاناة الدول الاخرى، بل اراد رئيسها ان يحتكر اللقاح الالماني لبلده وحده. وبعد ان تفشى الوباء داخل الولايات المتحدة، طالب ترامب العالم بالهروع للمساعدة. في المقابل، رأينا الصين بعد أن نجحت في التغلب على الوباء داخلها في وقت قياسي وبجهود بطولية ومضنية، رأيناها تساعد ايطاليا وايران والعراق وصربيا...وترسل المساعدات الى مختلف الدول المتضررة. وتدعو الى تعزيز التعاون الدولي من اجل القضاء على الوباء، وتعد بتوزيع اللقاح على دول العالم كافة بعد انتاجه.
ان هذه هي مخرجات تغيرات العالم التي تحدثنا عنها في الجزء الاول من المقال، ان الصين هي احدى تجليات الواقع العالمي الجديد. ويجب على العالم ان يعترف بهذه الحقيقة، ويسمح ويقبل بالمساهمة والدور الصيني في تشكيل نظام عالمي جديد وفي اصلاح مايجب اصلاحه في المنظومة الدولية. فالنهضة الصينية، هي ثمرة الجهود المحلية من جهة، والعالم المنتفح والعولمة من جهة ثانية. ومن مصلحة العالم والصين على حد السواء، ان تقف الصين اليوم للدفاع عن الانفتاح والعولمة والتعاون الدولي، وتعزيز روح الاجماع بين دول العالم حول القضايا المصيرية للبشرية. ويمكن للصين ان تقدم ثلاثة اسهامات هامة للعالم في المستقبل:
اولا، قيادة مرحلة جديدة من التعاون الدولي والانفتاح: ان النهضة الصينية هي احدى اهم مخرجات العالم المنفتح والتعاون الدولي، والصين يجب أن تدافع على هذه المبادئ بشراسة، ويجب ان يتجسد ذلك في سياسات الدولة وقيم المجتمع. ويجب ان تعمل الصين مع مختلف الدول على تحويل العولمة الى الية لتقاسم المصالح وليس تصدير الازمات او مصدر للخوف من الاخر. والصين اليوم باستطاعتها ان تجد ارضية مشتركة مع مختلف الدول للتعاون متبادل المنفعة.
ثانيا، تجنيب العالم حربا امريكية صينية: ان العديد من المراقبين يحذرون من تدهور العلاقات الامريكية الصينية نحو مواجهة عسكرية. لكن يبقى بامكان الصين تجنّب هذه الحرب من خلال عدم الانسياق وراء الاستفزازات الامريكية، وتوسيع مجال التعاون مع مختلف دول العالم، بعيدا عن سياسات الاحلاف او الصراع. وفي الوقت الذي تتجه فيه امريكا الى الانعزال والتخلّي عن الحلفاء، يجب على الصين ان تعمل على توسيع دائرة اصدقائها في الغرب والشرق، على اساس روح التعاون والانفتاح. خاصة وان هناك المزيد من الدول الغربية التي باتت على قناعة بمكانة ودور الصين في العالم وعلى استعداد للتعاون معها. لذا يجب أن تواصل الصين التحلي بروح الانفتاح ولاتيأس في كسب المزيد من الاصدقاء والشركاء. ويجب ان لايؤثر تدهور العلاقات الصينية الامريكية على روح انفتاح الصينيين على العالم.
ثالثا، دعم السلم والتعايش: كما ذكرت سابقا، ان العالم يعيش اليوم مرحلة هشّة، تتصاعد فيها الشعبوية والتعصب، وهذا لاشك في أنه لايخدم السلم والتعايش بين الدول والشعوب، ولايتماشى مع اتجاه العولمة وترابط المصير بين الدول. والصين بصفتها مستفيدة من العولمة وداعية لها، يجب ان تكون مصدر الهام لقيم الانفتاح الثقافي والتعايش التي يجب ان تسود عصر العولمة، وتجعل العالم اكثر سلما وتناغما، ومن ثم اكثر قدرة على التعاون والاستقرار.
ان جائحة كورونا المفاجئة، قد جعلتنا ندرك حجم التغيرات التي طرأت على العالم. لقد كانت امتحانا لقدرة ومسؤولية الدول الكبرى، وقد نجحت الصين، بينما اخفقت دول اخرى. لقد كشفت هذه المحنة، عن هشاشة وتفكك العالم، وحاجتنا لنظام عالمي جديد، يكون اكثر قدرة على الاستجابة لمشاكل العالم الملحّة، واكثر ملائمة لروح العولمة وترابط المصير بين الدول والشعوب، الحقيقة التي لامفرّ منها اليوم. وان الصين هي الدولة الاكثر تماسكا داخليا والاكثر استقرارا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، والاكثر وضوحا للرؤية المستقبلية، ونهضتها هي احدى اهم ثمار العالم الجديد. وهذا العالم في حاجة لدور الصين، كما يأمل ان يرى الصين تعبر على روح العالم المنفتح والمتناغم بشكل افضل واقوى.
اقرأ أيضا: ماذا يجري للعالم... كورونا ونواقيس الخطر