كنت اتساءل بدهشة قبل زيارة الصين:
كيف لدولة أكثر من مليار نسمة و قوميات مختلفة تحقق التقدم والاستقرار معا ؟!
منصور ابو العزم
شغلني السؤال ولسنوات عديدة، وكان يلح على ذهني بصورة مستمرة قبل ان ازور الصين بسنوات: وهو كيف لدولة نامية متعددة الاعراق والقوميات والديانات، وشاسعة المساحة –اكثر من 9 ملايين و600 الف كيلو مترا مربعا – ولا احد يدرك ماذا يعنى ذلك الا من سافر داخل الصين، وذلك فضلا عن عدد سكان يصل لنحو مليار و400 مليون نسمة متعددة القوميات –56 قومية – كيف لمثل هذه الدولة ان تنجح ليس فقط في تحقيق التنمية والتطور الاقتصادي والصناعي بهذا المستوى المبهر وتحقق نقلة رائعة في مستويات معيشة مواطنيها، وانما ايضا تنجح في صهر ودمج كل تلك الأعراق والقوميات والديانات في نسيج واحد، وكأنه سجادة متعددة الالوان والخامات من الحرير الصيني المشهور، وتحقق الانسجام والتناغم والتعايش بينها دون مشاكل تذكر في ظل هوية الدولة الصينية. فالكل صيني الهوية أيا كانت قوميته او ديانته. وهو الامر الذي يحقق فى نهاية المطاف الاستقرار للدولة والرضا للشعب، على الرغم من انه يثير احقادا وضغائن قوية في الغرب -وبعض المناطق في اسيا – ويدفعه –الغرب – الى تدبير المؤامرات لإثارة الخلافات بين القوميات والديانات المختلفة في الصين، كما رأينا في بعض الاوقات في إقليم شينجيانغ ذي الاغلبية المسلمة واقليم التبت وتايوان ثم مؤخرا في اقليم هونغ كونغ.
وزادت دهشتي عندما سافرت الصين وزرت أقاليم مختلفة داخل الصين، وانتقلت من اقليم الى اخر حيث شعرت بأنني انتقل من دولة الى اخرى لاختلاف العادات والتقاليد والثقافات حتى الطقس والتوقيت يختلفان! وتساءلت: كيف لدولة بهذه الخصائص والسمات ان تتمكن، ليس فقط من تحقيق التنمية والتطور الاقتصادي، بل وتحقق ايضا الاستقرار والسلام الاجتماعي وتحافظ على وحدة الدولة؟
شغلتني كل تلك التساؤلات كثيرا وانا اقرأ عن الصين وتجربتها في التقدم والنمو الذى بدأته منذ قيام الدولة الصينية الحديثة في عام 1949 اى منذ 70 عاما بالتمام، وتسارعت وتيرته مع انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح على يد " حكيم الصين العجوز" الزعيم دنغ شياو بينغ في عام 1979.
وعندما قمت بتأسيس مكتب صحيفة الأهرام المصرية في العاصمة اليابانية طوكيو في عام 1991، أخذت أراقب وأتابع الصين التي كانت في هذا الوقت قد ظهرت بوضوح انها شقت طريقها الصحيح نحو التقدم والتطور مثلها مثل باقي الدول " النمور" الأسيوية، كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، وهي الدول التي استلهمت تجربة اليابان الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلى مدى 9 سنوات قضيتها في اليابان ما بين العمل في مكتب الأهرام والدراسة الأكاديمية، كانت الصين تحقق نجاحات تنموية واقتصادية وصناعية رائعة، ومع دخول الألفية الميلادية الثالثة، كان صعود الصين الاقتصادي والصناعي قد أصبح أكثر وضوحا ويشار الى تجربة الصين في التنمية بالبنان في كل انحاء العالم.
غير ان زياراتي المتعددة للصين كشفت لي عن العديد من اسرار تقدم هذه الدولة العريقة ذات الحضارة الضاربة في عمق التاريخ والتي طالما تعلم منها العالم القديم، ويتعلم منها حاليا العالم الحديث.
اولى تلك الإسرار ان الدولة المركزية وعلى مدى ال 70 عاما الماضية اي منذ اقامة الدولة الصينية الحديثة في عام 1949 حققت المساواة بين ابنائها وجعلت كل هؤلاء المواطنين مشاركون في "مشروع التنمية والاستقرار للدولة الصينية" لانه يعود عليهم جميعا بالفائدة وهو ما حدث بالفعل حيث انعكست ثمار النجاح الاقتصادي والصناعي التي تحققت على مدى ال 70 عاما على المواطن الصيني وارتفع مستواه المعيشى وتخلص من الفقر وسنوات المعاناة. وقد شاهدت خلال زياراتي المتعددة لاقاليم مختلفة متفاوتة النمو كيف ارتفعت مستويات المعيشة بشكل غير مسبوق في كل تلك الأقاليم، وكيف ان نجحت الدولة المركزية في إشراك المواطن الصيني العادي في " مشروع الدولة " من اجل تحقيق الازدهار الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي.
ومن المؤكد ان صعود الصين الى العالمية واحتلالها المكانة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة فقط، يثير الكثير من الغيرة والأحقاد لدى الكثيرين في بعض مناطق اسيا في الدول الغربية خاصة. ولذلك لا تتوقف جهود الدول الغربية عن محاولة إعاقة مسيرة الصين نحو التقدم سواء عبر تدبير مؤامرات داخلية هدفها شق الصف بين الصينيين من خلال مزاعم عرقية او دينية، او شن حروب تجارية بهدف تدمير شركات صينية عملاقة لأنها نجحت في انجاز إبداعات تكنولوجية رائعة وأصبحت تهدد "عرش" شركات أمريكية او غربية كبرى.