بقلم شيه ماو سونغ، كبير الباحثين في جمعية بحوث استراتيجية التنمية والابتكار الصينية
كانت الصين دائما بلدا محبّا للسلام، واذا أمعنا النظر في التاريخ الصيني الطويل، نجد بأن الصين لم تمارس الإستعمار حتى خلال فترات قوتها. وازاء هذه الحقيقة التاريخية التي يعرفها الكثير، من المهم أن نوضح العوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة، والتي تتلخص أساسا في الخيار العسكري والإستراتيجي للصين، حيث حافظت الحضارة الصينية دائما على استراتيجية دفاعية. تتلخص أساسا في إستراتيجية الدفاع الإيجابي أثناء مراحل القوة، والدفاع السلبي أثناء مراحل الضعف. وتختلتف استراتيجية الدفاع الإيجابي الصينية عن سياسات التوسع والإستعمار والهيمنة التي اعتمدتها الدول الغربية.
بعد أن نشرح الإستراتيجية الدفاعية المتجذرة في الحضارة الصينية بشكل واضح، يمكننا أن نتوصل إلى تحديد دقيق للإستراتيجية الصينية، ونجعل المجتمع الدولي والدول الكبرى والدول المجاورة، تفهم بشكل حقيقي وتثق في نظرية "طريق التنمية السلمية" التي نطرحها. ومن ثم، يمكننا أن نبدّد الشكوك والمخاوف.
على امتداد التاريخ الصيني، كانت قبائل البدو الشمالية تمثل العدو الخارجي والمعضلة الحدودية الأكبر بالنسبة للصين. وهناك بعض الباحثين يطلقون على هذه القبائل اسم "امبراطورية البراري". لصدّ هجمات جيوش الخيّالة لقبائل البدو الشمالية، اعتمدت الصين استراتيجية دفاعية، وفي ظل هذه الإستراتيجية تم بناء سور الصين العظيم.
في أواسط وآخر حقبة مينغ، ظهر عدو جديد للصين على حدودها الجنوبية إضافة الى الحدود الشمالية. الملفت للإهتمام، أن إمبراطورية مينغ حينما واجهت مخاطر الغزو القادمة من جنوب شرقي حدودها البحرية، إعتمدت نفس الطريقة التي واجهت بها قبائل البدو الشمالية، حيث قامت ببناء سور الصين الساحلي. هذه العقلية الدفاعية، هي التي لم تدفع الصين مثلا لعبور البحر لإحتلال اليابان، كما أن الحملة الوحيدة التي شنتها الصين ضد اليابان قد حدثت في عهد حكم أسرة يوان الماغولية. وفي الحقيقة، إن نزعة التوسع التي ميزت أسرة يوان الماغولية الناشئة في حضارة البدو، هي ليست طبيعة متأصلة في الحضارة الصينية التي نشأت داخل حضارة زراعية، كما تأثرت وطوْعت هذه النزعة من طرف الحضارة الصينية لاحقا.
في مواجهة غزوات قبائل البدو الشمالية، أضطرت الصين في مراحل ضعفها إلى إعتماد استراتيجية دفاعية سلبية. وفي مراحل تغير القوة الصينية من الضعف نحو القوة، تتغير الإستراتيجية الدفاعية السلبية نحو استراتيجية دفاعية ايجابية، يتم من خلالها طرد الغزاة واستعادة الأراضي المحتلّة. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، قيام الإمبراطور هان وو (汉武帝) العقد السادس من حكم أسرته بتغيير سياسة التقارب مع قبائل الهونو، وشنّه لحربا عليها، أنهى بها التهديد الذي كانت تشكله على الصين.
استطاعت الصين بحجمها الكبير وبقوتها الإدارية ووحدتها أن تصدّ غزوات القبائل البدوية وإمبراطورية البراري. وقبل الزمن الحديث، كانت أوروبا فاقدة لمثل هذه القدرة في صد غزوات القبائل البدوية. ويعتقد الجيوسياسي البريطاني ماكيند، بأن اكتشاف الأوروبيين لرأس الرجاء الصالح المؤدي إلى الهند، قد جعل الأوربيين يتحولون إلى البحر، مايعني بأنهم قد عبروا خلف القبائل البدوية، الأمر الذي جنّبهم مواجة هذه القبائل في الشرق. ومن ثم، أصبح البحر منفذا للغرب للتوسع والهيمنة على العالم.
الإمبراطورية البحرية الأوروبية وإمبراطورية البراري في المنطقة الأوراسية، حضارتان تجمعهما النزعة التوسعية، وهما يختلفان في هذا الجانب عن الحضارة الصينية التي نشأت وسط حضارة زراعية. ومن هذه الزاوية، يمكننا إعادة فهم المعاني الحضارية للرحلات السبع التي قام بها البحار الصيني تشنغ خه في المحيط الهندي. في ذلك الوقت، كانت الصين تمتلك أكبر أسطول بحري في العالم، وكان هناك أعدادا كبيرة من التجار الصينيين الذين يتنقلون على جنوب شرق آسيا لممارسة التجارة، حيث وصلوا إلى هناك قبل الأوروبيين، كما كانت أعدادهم تفوق أعداد الأوربيين بكثير، لكن كل ذلك لم يتحول إلى إحتلال صيني، مثلما آل إليه الأمر مع الغربيين لاحقا.
تُعلي الحضارة الصينية من شأن "الإعتدال"، وترفض الإفراط في استعمال القوة. وحتى حينما تكون الصين في وضع التفوق، تخير إعتماد إستراتيجية الدفاع الإيجابي وليس التوسع. ومن هنا، يمكننا فهم الحربين الدفاعيتين اللتين خاضتهما الصين ضد كل من الهند وفيتنام. حيث تحركت الصين إلى الحرب بعد أن إقتحما الطرفان الأراضي الصينية. أضف إلى ذلك أن الصين بادرت إلى الإنسحاب بعد تحقيقها لإنتصار سريع، ولم تلجأ إلى احتلال الأراضي، وهذا يعد إحدى تجليات استراتيجية الدفاع الإيجابي.
تتجه الصين اليوم للتحول من الدفاع السلبي نحو الدفع الإيجابي، في إطار حمايتها لمختلف حقوقها المشروعة. لكن طبيعة الدفاع الإيجابي، تبقى أولا وأخيرا دفاعية، تستهدف الى تقوية بعض البؤر البحرية التي كانت ضعيفة مقارنة مع الدفاع البري. ويعد التحول من الدفاع البحري السلبي نحو الدفاع الإيجابي أمرا طبيعيا، يهدف إلى استعادة المناطق التابعة للصين، كما تمثل حماية للحقوق البحرية الصينية المشروعة ومعابر الملاحة الإستراتيجية.
تتمسك الصين بطريق النهوض السلمي، وداخل هذه النظرية، يمثل مفهوم "النهوض" طرحا مضادا لنظرية "الإنهيار الصيني"، كما يمثل مفهوم "السلام"، مفهوما نقيضا لـ "نظرية التهديد الصيني". أما نظرية "الدفاع الإيجابي" فتهدف إلى دحض تعميم نظرية "حتمية هيمنة الدول القوية" على المثال الصيني. ويستهدف مفهوم "الإيجابية" الرد على أولائك الذين يأملون أن تبتلع الصين في صمت الأضرار التي تمس من سيادتها وأمنها وتنميتها. لذا، فإن "إستراتيجية الدفاع الإيجابي" تمثل رسالة السلام التي ترسلها الصين نحو العالم.