بقلم غزوان بريك
بكين 21 نوفمبر 2015 (شينخوا) بعيداً عن هموم الغربة ومشاعر الاغتراب وواقعه، يحدث أن تصبح "الغربة وطناً"، لا أقصد أبداً الإشارة إلى أي أمور تتعلق بقضايا السياسة والأوطان، وإنما العكس تماما، فعندما أقول: "إن الغربة قد تكون وطناً"، فإني أقصد أن تشعر في غربتك أن مكان إقامتك الجديد يشابه إلى حد كبير بلدك الأم في عاداته وتقاليده وأسلوب حياته... مكان يشبه مدنك العربية التي تعرفها جيداً شارعاً شارعاً، وحيّاً حيّاً... مكان يُشبهك وتشبهه في ذات الوقت. وهنا فقط ستفهم من تلقاء نفسك كيف يمكن للغربة أن تصبح وطناً.
بالوصول إلى مقاطعة تشجيانغ شرقي الصين وتحديداً مدينة ييوو (والتي تعرف عند العرب بـ"إيوو")، سيخلع أي عربي يزور الصين رداء الغربة، وسينسى تماماً أنه في بلد أجنبي يختلف عن بلده وثقافته، فهذه المدينة الصغيرة التي تبدو بسيطة وبعيدة نوعاً ما عما تشهده مدن الصف الأول الصينية كبكين وشانغهاي وقوانغتشو من تطور تكنولوجي وحضاري ونهضة عمرانية ضخمة، تعتبر دعامة أساسية من دعائم التجارة الصينية مع الدول العربية بشكل خاص، فأينما ستتجول فيها ستلاحظ وتشعر وكأنك لم تسافر من بلدك، وأن كل ما تغير حولك هو مجرد أشخاص وأبنية، أو كأنك انتقلت من مدينة عربية إلى أخرى عربية أيضاً ولكنها ذات نكهة فريدة بثقافتها وأسلوب حياتها الذي يجمع الناس من الصين ومختلف الدول العربية في بوتقة واحدة قد تصيبك بالدهشة أحياناً، وقد تشعرك بالطرافة والألفة.
"ييوو" جنة التجار الباحثين عن خيارات لا متناهية لمختلف أنواع البضائع وبمواصفات متعددة إلى ما هنالك من أمور قد تهم شؤون التجارة والتجار، وفيما يعتبرها البعض عاصمة أو مركزاً تجارياً لا غنى عنه، بالنظر إلى حجم الصفقات التجارية الضخمة التي تتم سنوياً من هذه المدينة الصغيرة، ومساهماتها الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي، يلاحظ زوّراها ولا سيما من العرب أن هذه المدينة الوادعة تتمتع بنكهة فريدة تميزها عن بقية المدن الصينية، وخاصة من حيث حجم الجالية العربية الكبيرة المقيمة فيها، فأينما توجهت ستجد أغلب لافتات المحلات التجارية مكتوبة باللغتين العربية والصينية، ما يسهل على المقيم أو الزائر العربي الكثير من العناء، فضلاً عن شعوره بنوع من الألفة يدفعه للإحساس بأنه لم يبتعد كثيراً عن بلده الأم.
صحيح أن ترجمة بعض اللافتات غير صحيحة لغوياً، وربما قد تكون مغايرة تماماً للمعنى أو أنها قد تشوهه أصلاً ، لكنها على الأقل تبقى مألوفة وأسهل للفهم بالنسبة للعرب الذي لا يعرفون قراءة الرموز الصينية المعقدة التي يشبهها البعض بالطلاسم، ومن ناحية أخرى فإن تلك الترجمات المغلوطة تخلق جواً لطيفاً من الفكاهة والطرافة. فمثلاً هناك محل تجاري لبيع الفواكه الطازجة بمختلف أنواعها، قام بترجمة ما يبيعه من اللغة الصينية إلى العربية بطريقة طريفة ومبهمة تستوقف أي قارئ للغة العربية، فالجملة المترجمة تقول: "الفواكه الطازجة .. إدارة التكافؤ بستان" عبارة غير صحيحة تماماً، لكن قارئها يفهم أن الفواكه الموجودة هنا طازجة، وأنها تلقت رعاية طبيعية في المزارع إلخ"، ربما يكون هذا ما قصد أن يقوله صاحب المحل، وربما يكون الخطأ راجعا لمحركات البحث الإلكترونية التي توفر خدمات الترجمة الفورية، والتي غالبا ما تكون منقوصة أو مغلوطة أو حتى مبهمة. لكن وعلى كل الأحوال يبقى المعنى يدل بشكل أو بآخر أن هذا المكان لبيع الفواكه.
وقد تجد محلاً لبيع اللحوم كتب على بابه :"قتل اللحم بأنواعه... فريش ويومياً.. الدم حلال" وهنا يزداد الغموض في المعنى الحرفي واللغوي للجملة، لكنك ستفهم أن المكان يبيع اللحم الطازج المذبوح وفقاً للشريعة الإسلامية.
وفيما تستمر سلسلة الترجمات الطريفة بمصادفتك في الكثير من الأماكن، ستزداد دهشتك عندما تقرر أن تدخل أحد المحلات لشراء بعض حاجاتك، لتجد أن البائع الصيني يجيبك باللغة العربية حول سعر ما اشتريته إذ يقول لك مثلاً: "مئة وثلاثين يوان يا أخي" أو:" عاوز حاجة تاني" أو: عاوز طحينة أو مدمس" والكثير الكثير من هذه الأمور. من الواضح أن هذا البائع لم يدرس اللغة العربية بشكل أكاديمي، لكنه وجد أن من الضروري تعلم ما يكفيه "على الأقل" لضمان استمرار أعماله التجارية في هذه المدينة التي تحتضن أعداداً كبيرة من العرب والمسلمين فيها، أو ربما لأن الصينيين أكثر جدية من غيرهم في تعلم ما يفيد شؤون حياتهم وأعمالهم أياً كان، وضرورة عدم التكاسل أو الركون لمساعدة الغير لتسيير شؤون حياتهم كما يفعل كثيرون من العرب والأجانب المقيمين في الصين (وأنا واحد منهم).
"إيوو" جنة المستهلكين والتجار، فرغم صغر مساحتها، إلا أنها واحدة من أكبر الأسواق التجارية في الصين، ومن أشهر أسواقها سوق فوتيان وسوق سان شياو بين اللذين يقومان بصفقات وتداولات تجارية تقدر بمليارات الدولارات سنويا ولمختلف دول ومناطق العالم. كما أنك أينما تجولت ستصادف وتسمع لغات كثيرة من مختلف جنسيات العالم ولا سيما الدول العربية. هذا الحضور الأجنبي الكبير في المدينة جعلها تتوسع في توفير ما يلزم لضمان تطورها ونهوضها وذياع صيتها داخل الصين وخارجها، حيث افتتحت العديد من المدارس ورياض الأطفال لأبناء الجاليات، بينما توفر بعض المستشفيات مثلاً خدمات استشارية طبية باللغة العربية والعديد من الأمور الخدمية الأخرى التي تجعل المقيم في المدنية يشعر وكأنه في وطنه الأم، وأن كل ما تغير هو بعض الوجوه والأماكن.
"ييوو" تجمع أبناء الجاليات العربية مع إخوتهم وأصدقائهم الصينيين في مجتمع واحد يقوم على أسس المودة والاحترام المتبادل، مجتمع منسجم هادئ رغم كثرة اختلاف مكوناته ولغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لكنه يتطور مع الأيام وبشكل سريع محققاً المزيد من النمو والتطور ليس في المجال التجاري والاقتصادي فحسب، وإنما على صعيد العلاقات الاجتماعية والثقافية والشعبية التي باتت تجمع الكثير من الأجانب المقيمين في المدينة مع أصدقائهم من الصينيين، وليس أدل على ذلك من حالات الزواج بين الأجانب والصينيين مثلا، أو إقامة العديد من النشاطات الثقافية والشعبية والرياضية التي تجمع الناس جميعاً للمشاركة والاستمتاع بأجواء التعرف على عادات وتقاليد الثقافات والشعوب الأخرى، وما توفره هذه النشاطات من فرص أوسع لزيادة المعرفة والاطلاع من جهة، وتوسيع فرص التجارة والأعمال من جهة أخرى.
ورغم الانفتاح المتزايد الذي لا تنفك الصين تعمل على إنجازه في مختلف الصعد ولا سيما الاقتصادية منها، ومع تزايد أعداد الأجانب المقيمين في الصين لأغراض مختلفة كالعمل والدراسة والإقامة إلخ، لا تزال الصين تزخر بالكثير من التجارب الفريدة والطريفة واللافتة في ذات الوقت، ففي كل بقعة منها قصة وحكاية، وتحت كل حجر تاريخ يخبرك قصة شعب ما زال منذ القدم يقدم نموذجاً فريداً لثقافة الحياة التي تقوم على أسس الاحترام المتبادل والتعايش المشترك لما فيه خير الجميع، بعيداً عن أي حسابات ومصالح ضيقة الأفق، أو أفكار وتوجهات سياسية أو اقتصادية أو دينية، فهنا الكل يعمل ويعيش بسلام... وحسب.
جميع حقوق النشر محفوظة
التلفون: 010-65363696 فاكس:010-65363688 البريد الالكتروني Arabic@people.cn