عباس جواد كديمي
يمرّ العالم خلال هذه الفترة، بمرحلة حساسة تتوالى فيها الأحداث، وتتعقد فيها التطورات بشكل يدفع للاعتقاد بأن الأشهر القادمة قد تكون حُبلى بأحداث ساخنة، وأن الخريف القادم قد يكون مضطربا عاصفا مُنذِراً بمخاطر لا تُحمدُ عقباها، وقد تهدد - لا سمح الله - حياة ملايين البشر. كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية قد أودتا بحياة الملايين ودمّرتا أجزاءً واسعة من العالم، ولكن إذا سارت الأمور – لا سمح الله - نحو سيناريو تشاؤمي، وتزايدت مخاطر حرب عالمية ثالثة، فستكون التضحيات والخسائر فيها، أضعافا مضاعفة، بسبب الترسانات النووية لدى القوى الكبرى في عالم اليوم.
إذن، من المسئول عن تردي الأوضاع في العالم لهذا المستوى الخطير من التصعيد؟
من السهل لمن يتابع جذور الأحداث وأسبابها، أن يرى اليد الخفية والعلنية للإدارات الأمريكية المتعاقبة المثيرة للاضطرابات والمغذية للنزاعات والمُشعِلة لحرائق الحروب بالعالم.
يمكن متابعة أحداث تاريخية محددة لنزاعات وحروب بالعالم، حيث تفضح بلا شك، التدخلات الأمريكية في شئون الدول الأخرى؛ ومن هذه الأحداث على سبيل المثال لا الحصر، الحرب في كوريا ١٩٥٠، والحرب في فيتنام ١٩٥٥، والتدخلات في نيكاراغوا في نهاية السبعينات، والانقلاب ضد حكومة شرعية (حكومة مصدق) في إيران ١٩٥٣. أما في الشرق الأوسط، فحَدّث ولا حرج؛ الحرب على أفغانستان ٢٠٠١، وحرب غزو على العراق ٢٠٠٣، والحرب على ليبيا ٢٠١١، والأحداث في سوريا ٢٠١١، والأحداث في كل من اليمن ولبنان والسودان مستمرة حتى الآن، والأوضاع في الشرق الأوسط عموما لا تزال جوهر الأحداث بالعالم. في كل حدث من الأحداث المزعزِعة للاستقرار في العالم، هناك تدخل فاضح مباشر وغير مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدا من حكوماتها التي تأتي إلى السلطة بدعم مالي كبير من جماعات دعم لجهات معينة، ومن رجال أعمال أصحاب شركات كبرى عابرة للقارات، ومن شركات أمريكية تقوم بصنع الأسلحة وتصديرها للبؤر الساخنة العنيفة بالعالم. ونفس هذا الدعم هو الذي يوصل رجال أعمال آخرين يتبوؤون مناصب في مجلسي الشيوخ والنواب، وتكون مهمتهم حشد الدعم للإدارات الأمريكية وقراراتها التعسفية لشن المزيد من التدخلات في شئون الدول المستقلة الأخرى بالعالم وخاصة تلك الدول التي لا تقبل السير تحت الوصاية الأمريكية. وإذا ما واصلت دولة مستقلة ما، الحفاظ على استقلاليتها وقرارها السيادي، فيمكن تماما أن يتحول التدخل الأمريكي المباشر وغير المباشر، إلى تدخلات وخطوات أخرى تزعزع الاستقرار في الدول المستقلة، وتصل صفات الغطرسة والتبجح والعنجهية والاستبداد الأمريكية إلى أوجها بإعلان نواياها لتغيير الأنظمة وفقا لما تقتضيه مصلحة الإدارات الأمريكية، وإذا لم تنجح هذه النوايا ومحاولاتها، فهناك خيار التدخلات العسكرية لإسقاط الأنظمة بالقوة.
الأحداث الدموية الجارية في الشرق الأوسط، وما يجري في أماكن أخرى مضطربة بالعالم، مثل النزاع المسلح الذي لم ينته بين إيران وإسرائيل، والنزاع المسلح المستمر في أوكرانيا، والسعي الأمريكي المحموم لاحتواء وكبح تقدم دول آسيوية معينة تمكنت من الإمساك الوثيق بزمام المبادرة والسير على طريق تنموي سلمي مستقل ومستقر، وما يرافق هذا السعي من تدخلات أمريكية رامية لزعزعة الاستقرار في شرق آسيا والمحيط الهادئ، وغياب الدبلوماسية الحكيمة الموثوقة، وانتشار لغة التهديد والوعيد، وضغوط ما يسمّى بالمفاوضات التجارية والتهديد بفرض الرسوم الجمركية وشن حروب تجارية، وغياب الاستقرار في الاقتصاد العالمي، وكذلك التهديدات الأمنية غير التقليدية بالعالم، كلها عوامل تؤكد خطورة الأوضاع وتُنذر بزيادة الخطر إلى حدٍ يهدد العالم كله. إن العالم يُدرك هذه الخطورة، ويدرك مستوى التحذير والإنذار. فالتحركات النووية الأمريكية ضد روسيا مؤخرا، تمثل استفزازا خطيرا يضع العالم على حافة خطر نووي جسيم داهم.
هذا السيناريو النووي الخطير جاء إثر قرار الرئيس الأمريكي ترامب، بنشر غواصتين نوويتين قرب روسيا. وقراره الاستفزازي الخطير هذا، جاء نتيجة تعبير عن الرأي لمسئول روسي سابق، نشره على وسائل التواصل الاجتماعي، وأثار عصبية وغضب السيد ترامب الذي يفتح عينيه وأذنيه تجاه منطقة ما، بينما يغمضهما تجاه معاناة ومآسي البشر في مناطق أخرى بالعالم. في الوقت نفسه، هناك عشرات المسئولين الأمريكيين، الحاليين والسابقين، ينشرون يوميا آراءً استفزازية ضد دول أخرى، بحجة حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي. ويبدو من منظور السياسات الأمريكية المتغطرسة، أن هذه الحرية مكفولة للمسئولين الأمريكيين فقط، وحرامٌ على غيرهم.
وفي ظل هذه الأوضاع المتفاقمة الخطورة، هناك سؤال لا بدّ أن يطرحه كل من له ضمير إنساني، ألا وهو لمصلحة من يجري تصعيد الأمور لمثل هذا المستوى الخطير المتمثل بالتهديدات النووية؟، والجواب واضح، وهو أن أصحاب المصلحة الحقيقيين هم الذين ينشرون أكثر من ٧٥٠ قاعدة عسكرية أمريكية في أنحاء العالم، هم مثيرو المشاكل والاضطرابات والاستفزازات ومشعلو حرائق الحروب في العالم، أولئك لا يريدون أن تتغير وضعيتهم المسيطرة المهيمِنة على العالم، الذين لا يقبلون بحقيقة أن العالم قد تغيّر من أحادي القطب تسيطر فيه الإدارات الأمريكية ومن يلتف حولها من متنفذين متعطشين للدماء وللسلب والنهب والثراء الفاحش، إلى عالم متعدد الأقطاب يسعى لتحقيق نوع من العدل والمساواة والاستقرار والسلام والاستقلالية والتنمية لكل البشر.
لا تستهينوا بالمشاعر المكبوتة لدى الملايين
رغم الأحداث المضطربة التي تجعل منطقة الشرق الأوسط ساخنة، فهذه المنطقة غنية بأهلها أولاً، ثم بتاريخها وحضاراتها وإسهاماتها في مسيرة الحضارة البشرية. أما حقيقة كونها تعاني منذ عقود من اضطرابات ونزاعات، فهذا لا يعني أنها مكبّلة بوضع ميئوس منه. لا، أبداً، فهي حيّة ومتجددة بأهلها وخاصة أجيال الشباب الطامحة لحقوقها وللتقدم مع تيار العصر. إن تحقيق الاستقرار والسلام والتنمية فيها، أمر مفيد جدا لكل من يسكنها، ومستعد للتعايش السلمي فيها.
ولكن ما يحدث في المنطقة حاليا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، إذ يبعث إشارة إنذار يجب عدم تجاهلها، وهي أن ملايين البشر بالمنطقة يشعرون، بعمق، بالمأساة التي يتعرض لها بشر آخرون أخوة لهم، ولا سيما أطفال ونساء وشيوخ لا حول لهم ولا قوة. هذه المشاعر المكبوتة منذ أكثر من عقود، تضطرم في الصدور، ولا يمكن ضمان أن تستمر مكبوتة تحت فضيلة الصبر وضبط النفس، ولا بدّ من تحرك عاجل لإحقاق الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وفضح وكبح سياسة المعايير المزدوجة التي تنتهجها الإدارات الأمريكية. العرب قد بادروا لمدّ يد السلام، وقد عقد بعضهم اتفاقيات سلام، وأعربوا عن استعدادهم لسلام عادل مستدام يحترم ويضمن حقوق الجميع. ولكن الانحياز الأمريكي يضرب بمشاعر العرب ومبادراتهم عرض الحائط، وهذا التجاهل المتغطرس يزيد من مشاعر سخط الملايين، ويدفع باتجاه نفاد صبرهم.
الدعم العالمي للحقوق المشروعة للفلسطينيين في دولة آمنة تتمتع بأسباب الحياة والبقاء، يتزايد عالميا؛ فهناك دول كثيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أعربت عن تأييدها لهذه الحقوق المشروعة، حتى أن هناك دولاً غربية بارزة مثل فرنسا وبريطانيا وكندا، وربما هناك دول أخرى قد تُعلن مواقفها تباعا، قد أعربت عن استعدادها للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة. ورغم أن هذه التصريحات لا تزال مجرد بيانات غير مجسّدة على أرض الواقع، ولكنها باتت مُعلنة. لا أريد التشكيك بهذه المواقف المُعلنة، ولكن أرى شخصيا، أن حكومات هذه الدول الغربية قد أعلنت مواقفها الأولية هذه، بهدف امتصاص سخط مواطنيها تجاه ازدواجية معايير تتعلق بما يجري في غزة، واستباق أحداث محتملة، وكبح عواقبها. لا بد من الإشارة لهذه المواقف، من أجل التأكيد على أن مشاعر الشعوب يجب احترامها وعدم تجاهلها. وفي هذا الصدد، لا بد أيضا من تأكيد حقيقة أن أيا من هذه البيانات المُعلنة لن يؤثر فعليا بالأحداث وتطوراتها، لأن المؤثر الحقيقي الوحيد هو الإدارات الأمريكية، فهي التي سبّبت هذا النزاع وهي التي تغذيه وتمده بعوامل استمراره، غير مكترثة أبداً بمعاناة ومآسي البشر بالمنطقة ولا بالعالم، لأنها تسعى لهدف واضح لا تستحي من إعلانه وهو مواصلة النفوذ والسيطرة والهيمنة على المنطقة والعالم.
حقوق الإنسان في العيش الكريم ينبغي أن تكون مضمونة لكل البشر، وليست حكرا لنوع معين. كل إنسان يتمتع بمشاعر إنسانية حقيقية لا بدّ أن يرفض ويدين كلّ أنواع العنف ضد أي بشر، بل حتى إدانة أي تصرف ينتهك التعايش المنسجم بين البشر والبيئة على كوكب أمّنا الأرض. وعلى هذا الأساس، فإن حق الفلسطينيين في العيش الكريم الآمن ينبغي صيانته وفقا لأخلاقيات البشر وحقوق الإنسان ومرجعية الأمم المتحدة وميثاقها وقراراتها.
ينبغي على كافة دول العالم المحبة للسلام والتنمية والاستقرار والعيش الكريم، أن تعزز جهودها الذاتية المستقلة لتحقيق نموها وتطورها، بما يضمن استقلاليتها وسيادة قراراتها، بدلا من الاعتماد المفرط على دولة أخرى، كما يحدث مع دول تعتمد كثيرا على الدعم الأمريكي. فالإدارات الأمريكية لا تقدم دعما مجانيا بحسن نية، بل تعمل بالتأكيد على استغلال الدول المُتلقية للدعم لتُحرِّكَها وفقا لأوامرها وبالوكالة عنها، لإثارة مشاكل واضطرابات وحروب بالوكالة تخدم مصالح الهيمنة الأمريكية، في حين يكون الضحايا هم من أبناء دول أخرى. وفي هذا الإطار، هناك عبارة مشهورة تؤكد خطورة الاعتماد على الإدارات الأمريكية والتبعية لها، قالها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الراحل هنري كينسجر، مفادها أنه "قد يكون خطيرا أن تكون عدواً لأمريكا، ولكن أن تكون تابعا لها، فذلك الهلاك بعينه".
الأمن المشترك والتنمية للجميع والحوار بين حضارات العالم
نعم للشراكات التعاونية، ولا للتكتلات الحصرية
لا بدّ من تعزيز جهود دول العالم الساعية للسلم والأمان والنمو والتقدم لخدمة شعوبها، أن تتبنى نهج الأمن الشامل المشترك الذي يضمن الأمن للجميع، ولا يقوم على أساس ضمان الأمن لبلد معين على حساب زعزعة الأمن في بلد آخر. لا بد من مفهوم الأمن الشامل الذي يرفض عقلية المُحصّلة الصفرية، أو أن الفائز يأخذ كل شيء، ويفرض على الآخرين أن يقبلوا بحرمانهم من كل شيء، ويطيعوا الفائز بشكل أعمى، متنازِلين عن حقوقهم بالسيادة والاستقلالية والكرامة. كل مفهوم أمني معاكس لمفهوم الأمن الشامل، سيقود بالتأكيد إلى مزيد من الاضطرابات والنزاعات والحروب.
إن الفطرة السليمة تؤمن بأن الاستقرار والأمن والسلام تقود إلى التنمية والعيش الكريم، والانشغال بالعمل المثمر، والتطلع إلى المستقبل، وأن استقرار العيش الكريم يرتقي بالمستوى الأخلاقي للبشر وتطلعاتهم للتعايش السلمي وقبول الآخر واحترام تاريخه وحضارته وإنسانيته. وهذا يعزز تواصل الحضارات، ويكبح تصادمها.
نموذج بريكس
ولنا في نموذج دول بريكس مثال حيّ على أن العالم قد تغيّر، ولم يعد كما كان قبل ٢٠ سنة مثلا، حيث كانت الولايات المتحدة القوة الوحيدة المتنفذة بالعالم.
تتكون بريك التي تأسست عام ٢٠٠٦، من الأعضاء الأربعة المؤسسين وهم البرازيل وروسيا والهند والصين، ثم انضمت جنوب أفريقيا لهذه الدول في عام ٢٠١١، ليصبح اسم المجموعة بريكس. ثم انضم خمسة أعضاء آخرون للمجموعة بين عامي ٢٠٢٤-٢٠٢٥، وهم مصر وأثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات العربية المتحدة. وهناك ١٠ شركاء للمجموعة تمت دعوتهم خلال قمة كازان الروسية عام ٢٠٢٤، وهم بيلاروسيا، بوليفيا، كوبا، كازاخستان، ماليزيا، نيجيريا، تايلند، أوغندا، أوزبكستان وفيتنام. أصبح اسم المجموعة (بريكس+)، وتمثل حاليا ٤٤٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي (عندما يُحسب إجمالي ناتجها المحلي مجتمعا وفقا لتعادل القوة الشرائية) وفقا لبيانات من صندوق النقد الدولي، ويمثل عدد سكانها ٥٦٪ من مجموع سكان العالم.
فمجموعة بريكس+ بعدد أعضائها المتزايد، وتأثيرها الجغرافي-السياسي عالميا، تمثل قوة للجنوب العالمي، وتقود نحو نظام عالمي يتمتع بتعددية أطراف حقيقية، وتسعى لتحقيق عالم أكثر عدلا وإنصافا، ينعم بالأمن والاستقرار، وبفرص تنمية للجميع.
التأثير العالمي المتزايد لمجموعة بريكس+، مثال واضح على أن العالم قد تغيّر، وأن التصرفات العصبية التي تتخبط بها الإدارات الأمريكية، وخاصة الإدارة الحالية للرئيس ترامب، لن تنفع في كبح التغيّرات الحاصلة بالعالم، ولن تحجب حقيقة أن دولاً أخرى قد نمت وتطورت ونهضت وأصبحت قادرة على حماية استقلاليتها وسيادتها ومصالحها الحيوية، بل وحتى قادرة على الدفاع عن مصالح شعوب الدول النامية ومساعدتها على دعم التنمية فيها وفقا لظروفها واحتياجاتها، والأهم هو التعامل معها على قدم المساواة، لا على فكرة التبعية.