يبدو أن الصين تؤكد من سنة لأخرى، بل تكاد لا تضيع فرصة احتضانها لأي مناسبة أو رعايتها لأي مبادرة لتؤكد للعالم أنها واثقة الخطى في استراتيجية تجسيد سياستها الخارجية المبنية على مد جسور الصداقة بما ينسجم مع ما يمكن وصفه بالحكامة الديبلوماسية الخادمة للوطن وللعالم. تقاربات متنامية تجعل أي محلل للعلاقات الدولية يستنتج لا محالة أن الصين اليوم هي الأقرب إلى تجسيد فلسفة رابح رابح التي لم تعد تستثني قطاعا من القطاعات ولا مجالا من المجالات في وقت أصبحت فيه المتغيرات متداخلة والمصالح مركبة يتماس الوازن منها كالسياسة والديبلوماسية والشؤون العسكرية والاقتصاد مع الشؤون الاجتماعية كالتعليم والصحة والثقافة وصولا إلى رفاه الشعوب.
إن المنظور الدولي الحديث وإن كانت يتسم اليوم بتجاذبات المصالح العالمية والإقليمية والوطنية التي عرتها الصراعات والتكتلات بمختلف مستوياتها كشفت للعالم كثيرا من الحقائق وغيرت الكثير من المفاهيم، ووسط هذا الزخم لا يكاد يختلف اثنان على أن الصين تتقن تقدير المسافات، بلغة هندسة الديبلوماسية العاقلة والحكيمة التي تعرف من خلالها متى وكيف تتصرف حيال التقلبات الدولية فهي تحسن التقارب مع تلك الدول التي تقاسمها نفس الاهتمامات والانشغالات والتصورات المستقبلية، وتقدر مسافة الأمان عن تلك التي يفرض الراهن واجب الود معها لا غير، من منطلق احترام أدب التعايش الدولي.
الصين التي تؤكد للعالم أنها ليست قوة اقتصادية فحسب، ترسخ صورة تلك القوة الناعمة الحكيمة التي تساهم بعلاقاتها في موازنة بوصلة النظام العالمي الذي يشهد هشاشة لم تعرفها أقطاب العالم بهذا الشكل منذ الحرب العالمية الثانية.
إن هذه المعطيات لا تنبع من تحليل عاطفي بل هي ملموس من المواقف الدولية والأرقام الإحصائية التي يسهل على أي باحث البحث فيها ان التبس عليه بالملاحظة تلمس صدقيتها.
ولعل واحدا من الشواهد على هذه التوجهات هو الاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني-العربي الذي احتضنته بكين منذ أيام، والذي يشكل في عنوانه دليلا على عناية الصين بعلاقاتها الاستراتيجية ووفائها لالتزاماتها الوطنية والدولية وفق ذات التصورات التي بنيت عليها نشأة هذا المنتدى الذي يحتفي بمرور 20 عامًا على تأسيسه.
اللقاء هذه السنة جاء ليقيم مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي جرى تصورها ويتواصل تجسيدها من جهة، حيث جاءت كلمة الرئيس الصيني شي جي بينغ في افتتاح المنتدى جامعة في تبيان ما تم تحقيقه وما ينتظره الشعب الصيني مع الشعوب العربية في مستقبل الأيام والسنين، بل إن كلمته تندرج في صلب القراءات سابقة الذكر، عندما استهل حديثه بالتذكير بالتغيرات الحاصلة التي لم يشهدها العالم في قرن والتي تتكشف بسرعة في جميع أنحاء العالم، تسعى على ضوئها كل من الصين والدول العربية بقوة إلى إنجاز المهام التاريخية المتمثلة في تحقيق النهضة وتسريع التنمية الوطنية، وأضاف أن بناء مجتمع مصير مشترك صيني-عربي يمثل تعبيرا قويا عن الرغبة المشتركة في عصر جديد من العلاقات الصينية-العربية ومستقبل أفضل للعالم.
وإذ جدد الرئيس شي التزامه أن الصين ستعمل مع الجانب العربي لجعل العلاقات الصينية-العربية نموذجا للحفاظ على السلام والاستقرار العالميين، ومثالا على التعاون عالي الجودة في إطار الحزام والطريق، ونمطا للتعايش المتناغم بين الحضارات، ونموذجا لتعزيز حوكمة عالمية جيدة، فإن المستقريء لكلمة الرئيس الصيني سيجد أنها ورغم أنها كلمة افتتاح للمنتدى كانت أهم محطة في اللقاء لأنها حملت تحليلا للمتغيرات الدولية وما يقابلها من تحديات وجاءت بورقة طريق تشكل التزامات جديدة أكثر دقة بالنظر الى تلك التي رسمتها القمة الصينية العربية الأولى، في شكل الأعمال الثمانية المشتركة التي وضعت أنذاك لتدعيم التعاون العملي الصيني العربي.
الرئيس الصيني الذي صنف القضية الفلسطينية حجر الزاوية في مشهد جديد للسلام الدولي عندما أكد على ضرورة تحقيق العدالة والسلام في المنطقة، ودعم الصين الثابت لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية، عزز ثقة العرب ودعاة السلام عبر العالم في مواقف الصين عبر التاريخ كقوة داعمة لتحقيق السلم والاستقرار الدوليين، بينما تتنامى ذات الثقة في مجالات أخرى عددها الرئيس الصيني بالتفصيل في صورة الكثير من الأشياء التي تحققت منذ نشأة المنتدى والتي برهنت للجميع أن أرضية البناء كانت صلبة، ولم تكن لغة خشب ولا ديماغوجيا فارغة المحتوى بل شكلت على الدوام ارادة سياسية قوية بأجندة موضوعاتية دقيقة سمحت بتفعيل ما كان يبدو بعيد المنال، وما فتئت ذات الإرادة تتطور من عام إلى عام من خلال فواعل جمعية مشتركة بين الصين وجامعة الدول العربية، أو من خلال مبادرات متخصصة مكثفة في مجالات شتى في شكل اتفاقيات يتم توقيعها مع كل دولة على حدى وهو الجهد الذي يرتقي تدريجيا إلى تفعيل مفهوم الشراكة الاستراتيجية الشاملة.
كلمة الرئيس شي حملت نبرة التفاؤل، وجمعت بين عاطفة الأمل ولغة الاستشراف العلمي لمشهد مستقبلي بمجموعة من الحوافز بمنطلقاتها التاريخية والحضارية وصولا إلى مؤهلاتها العلمية والتكنولوجية المتزايدة ليعبر صراحة أن التحدي مرتبط أيضا بأزمة من نوع آخر وصفه الرئيس شي بعجز في الحوكمة والثقة والسلام والتنمية ونبه إلى أنه لا يزال يتفاقم باستمرار، مشيرا أن الأمر يتطلب التزاما مشتركا بمبدأ التشاور والتعاون والتنافع وتحسين الحوكمة العالمية باطراد، وعبر عن استعداد الصين للعمل مع الجانب العربي على الدعوة إلى تعددية الأقطاب العالمية المتسمة بالمساواة والانتظام والعولمة الاقتصادية المتسمة بالشمول والمنفعة للجميع، ونصب نموذج لتعاون الجنوب - الجنوب في الحوكمة العالمية، وهي تفاصيل ستكون لا محالة مجالا مهما للمحللين والباحثين لأنها تحمل في ثناياها بل في كل كلمة منها تفصيلا لابد أن يحظى بالاهتمام ويؤخذ بالحسبان في رسم تصورات المستقبل القريب واستشراف البعيد.
إن تضاعف حجم التبادل التجاري بين جمهورية الصين الشعبية والدول العربية عشر مرات، بين ولادة المنتدى ومضي عشرين عاما من عمره، يوازي أمال وطموحات الشعوب التي تضاعفت بذات المستوى يقينا بأن التدبير الصحيح الذي صنع الفارق خلال هذه السنين، قادر اليوم على صناعة المزيد عندما تحفه ذات الإرادة السياسية التي نوه بها وأعاد تحديث صورتها وأبرز تغيراتها الرئيس الصيني في كلمته والتي باركها إعلان بكين الذي توج اجتماع هذا العام إيمانا بخطة تنفيذ المنتدى خلال العامين المقبلين وما عام 2026 ببعيد.
إن العرب الذين لم يندموا بعد عشرين عاما على أن وضعوا يدهم في يد الصين من خلال المنتدى، تتنامى قناعتهم أن هذه القوة الإقليمية تواصل سياسية البذل من أجل المنفعة المشتركة في زمن اشتد فيه الخذلان من كثير من الشركاء الذين توسم فيهم العرب خيرا، يؤمنون أن العمل المشترك الصيني العربي يجسد اليوم روح الصداقة الصدوقة التي قال عنها العرب أنها صانعة لشروق الشمس في هذه الحياة، وهو الاقتباس الذي انهى به الرئيس الصيني كلمته عندما طمأن وبابتسامة متفائلة أن الصداقة الصينية العربية قادرة على ترسيخ مستقبل مشترك مليء بنور الشمس!