بقلم/ وانغ تشيانغ، باحث في استراتيجية الأمن القومي
أظهر تقرير بحثي حديث أصدره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في السويد أن الإنفاق العسكري العالمي قد ارتفع في عام 2023 بسبب اشتداد الصراعات العسكرية والتوترات الجيوسياسية. وبلغ إجمالي الإنفاق العسكري العالمي في عام 2023 إلى 2.4 تريليون دولار أمريكي، أي بزيادة فعلية قدرها 6.8% مقارنة بعام 2022. وتعد هذه أكبر زيادة على أساس سنوي منذ عام 2009. وأن الاستثمار العسكري الكبير الذي قامت به مختلف البلدان لم يحقق السلام العالمي، وإنما وقع العالم في معضلة أمنية يبدو من الصعب حلها. إذن، ما هي المشكلة فعلياً؟
يعتمد اتجاه ونسبة الميزانية الوطنية على القوة الشاملة للبلاد، وأهداف التنمية، والبيئة، ويشكل الإنفاق العسكري استثماراً في ميزانية الدولة لشراء المنتجات الأمنية، وبناء واستخدام القوة العسكرية. وإن الفائدة الناتجة عن الاستثمار العسكري هي ضمان أن تكون المصالح الوطنية دائما في حالة من التحرر من المخاطر والتهديدات. ومن الواضح أن النفقات العسكرية تعكس بشكل مباشر الحكم الشامل على البيئة الأمنية في البلاد. وبما أن البيئة الأمنية لكل دولة مختلفة، فإنه من الطبيعي ان تكون النفقات العسكرية مختلفة أيضًا. ومع ذلك، تشير الإحصاءات ذات الصلة إلى أن التغيرات في النفقات العسكرية العالمية على مدى السنوات الثلاثين الماضية أظهرت درجة عالية من الاتساق، وهو ما يوضح هذا التغيير بشكل كامل. فهو لا يعكس ببساطة العوامل الداخلية التي تغير الاحتياجات الأمنية لمختلف البلدان، بل إنه ينطوي على تلاعب ونفوذ خارجي واضح للغاية.
وبعد دراسة البيانات الصادرة هذه المرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في السويد، وجدنا أنه منذ نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم، شهد الإنفاق العسكري العالمي بشكل عام تغيراً على شكل حرف "W"، حيث شهدت الفترة من عام 1992 إلى عام 1999، مرحلة الانخفاض الأولى، واستمرت مرحلة الارتفاع الأولى من عام 1999 إلى عام 2011، بعدها استمرت مرحلة الانخفاض الثانية لمدة ثلاث أو أربع سنوات فقط، وزادت النفقات العسكرية العالمية بشكل ملحوظ بدءًا من عام 2015 .ويعد هذا التغيير مثير للاهتمام ، لأن العديد من نقاط التحول الرئيسية تتوافق مع إطلاق الناتو لحرب كوسوفو في عام 1999، وانسحاب القوات الأمريكية من العراق في عام 2011، والهجوم العسكري الأمريكي البارز على ما يسمى بتنظيم "الدولة الإسلامية" في عام 2015. بعبارة أخرى، ترتبط التغيرات في الإنفاق العسكري العالمي ارتباطاً مباشراً بالعمليات العسكرية التي تشنها المؤسسة العسكرية الأميركية في الخارج، والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن التغير في ميل منحنى "W" يتوافق إلى حد كبير مع الإنفاق العسكري الأميركي. وبعبارة بسيطة، فإن الانفاق العسكري العالمي ينخفض عندما تبدأ الولايات المتحدة في خفض إنفاقها العسكري، والعكس صحيح. وبطبيعة الحال، كل دولة لها ظروفها الخاصة، ومن المستحيل أن تقوم جميع الدول ببناء قدراتها العسكرية الخاصة وفقا للأحكام الأمنية للولايات المتحدة. ويعود السبب الأساسي خلف مثل هذا الاتجاه المتغير هو أن الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة تحفز وتؤثر بشكل مباشر على الاضطرابات الجيوسياسية العالمية واندلاع الصراعات.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية، كان الإنفاق العسكري الأمريكي دائمًا هو الأكبر في العالم، وظل الإنفاق العسكري أعلى من 3% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي على مدار العام. وفي عام 2023، تشكل الإنفاق العسكري الأمريكي حوالي 40% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وتصل ميزانية الدفاع للعام المالي 2024 إلى 886 مليار دولار أمريكي، وهو أعلى من زيادة قدرها حوالي 30 مليار دولار أمريكي في سنة مالية واحدة. ومنذ وقت ليس ببعيد، قدم الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الكونغرس مشروع ميزانية دفاع بقيمة 895.2 مليار دولار أمريكي للسنة المالية 2025، بزيادة قدرها أكثر من 9 مليارات دولار أمريكي عن السنة المالية 2024، يقترب من 900 مليار دولار أمريكي. ويتجاوز هذا الرقم إجمالي الإنفاق العسكري لتسعة دول أخرى من الدول العشر الأكثر إنفاقا عسكريا، ويمثل بالفعل 40% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
إن إنفاق دولة واحدة عسكرياً ما مجموع النفقات العسكرية للعديد من الدول الكبرى الأخرى، والتمتع بميزة مطلقة في النفقات العسكرية العالمية، كما تدعي هذه الدولة أنها أكبر قوة في العالم ولن تسمح أبدًا للدول الأخرى بالتطور بشكل طبيعي، خلق جو مصطنع من القلق نشر الذعر الأمني في مختلف البلدان، ونشب الصراعات المسلحة الواحدة تلو الأخرى، وتكاد تكون موارد الأمن القومي شحيحة في بعض البلدان النامية. وليس هناك شك في أن سعي الولايات المتحدة إلى الهيمنة والتفوق العسكري المطلق هو السبب المباشر لارتفاع الإنفاق العسكري العالمي.
وبينما تزيد الولايات المتحدة نفقاتها العسكرية لتحسين قدرتها الإنتاجية الدفاعية، فإنها تتعمد ايضاً على خلق مواجهات جماعية، والتحفيز على تصعيد الأزمات الأمنية الإقليمية، والاستمرار في تسخين الصراع بين روسيا وأوكرانيا، والتميز في مختلف أطراف دول الشرق الأوسط، من أجل السيطرة وحث الحلفاء على الارتباط بقدرة الإنتاج الصناعي العسكري الأمريكي، وإجبارهم على مواصلة السعي وراء القوة العسكرية الصارمة. ونتيجة لذلك، فإن الشركاء في نظام التحالف الأمريكي يتبادرون في دفع الفاتورة. وفي عام 2024، سيصل الإنفاق العسكري للدول الأعضاء الـ 18 في الناتو إلى 2% من معيار الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ قيمة عقود صناعة الدفاع الموقعة حديثًا بين دول الناتو الأوروبية ما يقرب من 10 مليارات دولار أمريكي. ومن أجل الحصول على الحماية الدائمة من الولايات المتحدة وتعزيز صوتها في الشئون الأمنية الأوروبية، فإن أعضاء الجناح الشرقي على استعداد للعمل بمثابة "بيادق" في يد حلف شمال الأطلسي، وقد زادت نفقاتهم الدفاعية بشكل أكبر، حتى أن بعض البلدان وصلت إلى 3,9%. أما بالنسبة لحليفتها الآسيوية اليابان، فتغتنم الفرصة لاختراق القيود التي يفرضها الدستور السلمي بشكل مستمر، وتخطط لزيادة إنفاقها العسكري إلى 72 مليار دولار في غضون خمس سنوات.
في واقع الأمر، أدت هذه الظروف إلى ظهور اتجاه متزايد الوضوح نحو "سباق التسلح" في أوراسيا. ولقد أثبت التاريخ مراراً وتكراراً أن سباقات التسلح لن تؤدي إلا إلى زيادة المخاطر، وأن النتيجة النهائية لن تكون إلا تصعيد المواجهة. ومن الواضح أن الدافع وراء هذه الزيادة في الإنفاق العسكري التي يحرض عليها الغرب ليس تخفيف المعضلة الأمنية، بل خلق مواجهة في المعسكرات.
إن الارتفاع الكبير في الإنفاق العسكري العالمي في عام 2023 هو في حد ذاته مظهر مباشر للمعضلة الأمنية ومعضلة التنمية، وهو يوضح بشكل كامل أن العالم يدخل فترة جديدة من الاضطراب والتغيير، ووقوف السلام والتنمية الدوليان مرة أخرى على مفترق طرق التاريخ. ومن غير المقبول أن تستخدم بعض الدول مصالحها الأنانية لاختطاف دول أخرى والتضحية بتنميتها الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية ورفاهية الشعوب، وحتى الضغط على الاستثمار في الشؤون العامة العالمية مثل الحد من الفقر والاستجابة لتغير المناخ. وإن إيجاد الطريق الصحيح أمام البلدان لحل الصعوبات وتحقيق التنمية لن يتحقق إلا من خلال القضاء على المخاطر التي تجلبها الهيمنة على العالم والالتزام بمفهوم أمني مشترك وشامل وتعاوني ومستدام.