موقع بقلم معالي سفير خادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية الصين الشعبية
الأستاذ/ عبدالرحمن بن أحمد الحربي
تمتد العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية متجذرة في عمق الزمان، ومتخطية لحواجز المكان، لترسم طريقًا معبّدا بالتعاون المثمر، والاحترام المتبادل، والرغبة الجادة في دفع عجلة التعاون في مختلف المجالات بين البلدين وشعبيهما الصديقين، حيث تشهد العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية في السنوات الأخيرة تطوراً ونمواً استثنائياً وتمر في أفضل مراحلها في شتى المجالات، سواءً الاقتصادية منها والاستثمارية والسياحية والثقافية وغيرها، مبنية على أسس المنفعة المشتركة، كما أن لاتفاقية الموائمة بين "رؤية المملكة 2030" ومبادرة "الحزام والطريق" الصينية الموقعة بين الجانبين دوراً جوهرياً في ذلك، تحت إطار الشراكة الاستراتيجية الشاملة المتفق عليها بين قيادتي البلدين الصديقين، ويعكس حرصهم وتوجيهاتهم الحكيمة لاستمرار تعزيز التعاون وتعظيم الاستفادة بما يزخر به البلدين من مقومات وإرث تاريخي عريق وعلاقة ممتدة منذ زمن للارتقاء بالعلاقات الى آفاق اوسع في كافة المجالات.
فمنذ تشرفي بقدومي إلى جمهورية الصين الشعبية خادماً لوطني الغالي المملكة العربية السعودية من خلال عملي سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في يوليو من عام 2022م، عاشرت المجتمع الصيني وشاهدت النهضة التنموية الكبيرة لهذا البلد وشعبه العظيم ومدى جمال الطبيعة والارث التاريخي والحضاري والتنوع الثقافي الذي يحظى به، واعتزاز الشعب الصيني العظيم بمقدرات وطنهم التاريخية والثقافية واحترامهم لحضارات وثقافات الشعوب الاخرى، وهذا وجه تشابه بين البلدين الصديقين وبين المواطن السعودي والصيني.
وأود في هذا المقام أن أسلط الضوء على تعاون الجانبين في الجوانب الثقافية، فقد أطلق الجانبان العديد من المبادرات خلال الفترة الماضية التي من شأنها إثراء هذا التشابه وتعميق العلاقة بين الشعبين، ولعلي أستذكر أبرزها وهي تتويج افتتاح فرع مكتبة الملك عبد العزيز العامة في جامعة بكين في مارس من العام (2017م) من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، وإطلاق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء لجائزة الامير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بين البلدين خلال الزيارة التاريخية والاستثنائية لفخامة الرئيس الصيني شي جين بينغ الى المملكة في ديسمبر من عام (2022م)، وإعلان فخامة الرئيس الصيني شي جين بينغ اعتماد الجانب الصيني للمملكة العربية السعودية كمقصد سياحي في الخارج لمجموعات السياح الصينيين، وكذلك قيام الجانبين بفتح واعتماد خطوط طيران جديدة لتسيير رحلاتها بين الجانبين وزيادة عدد الرحلات، وكذلك زيادة عدد المنح التعليمية وعدد الجامعات المعتمدة لدى الجانبين، وتوسيع تعليم اللغتين العربية والصينية سواء في الجامعات أو في مراحل التعليم العام، وتبادل الزيارات بين الطلبة والمعلمين في كلا البلدين، وإقامة معرض العلا "واحة العجائب في الجزيرة العربية" في قلب العاصمة بكين والذي قدم للزوار تجربة فريدة للتنقل عبر التاريخ الغني وكنوز الحضارات القديمة والإرث الثقافي العريق للعُلا الممتد لقرون، وغيرها العديد من البرامج والمعارض والفعاليات والمبادرات، وكل ذلك دلالة أخرى على أن اهتمام البلدين بالتواصل الحضاري والثقافي ليس جديد عهد.
وتمتد جسور التواصل الثقافي لتصل إلى بحور اللغة، فاللغتان العربية والصينية من اللغات العالمية الست في منظمة الأمم المتحدة، ولهما تاريخ عريق راسخ منذ القدم، وتشتركان في الاهتمام بالصوتيات و فن الخط والشعر والفصاحة، مما هيأ المجال للبلدين الصديقين لإطلاق العديد من المبادرات المختصة بنشر وتعلم اللغتين والعديد من البرامج المميزة، ومنها برنامج شهر اللغة العربية في الصين الذي أطلقه سمو وزير الثقافة رئيس مجلس أمناء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية الأمير/ بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود في شهر مارس 2024م واختتمت فعالياته يوم 26 من أبريل 2024م، حيث عقد مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية فعاليات البرنامج العلمي ضمن شهر اللغة العربية في الصين وأنشطته في مدينتي شنغهاي، وبكين، واستضافت الفعاليات والأنشطة كل من جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، وجامعة بكين للغات والثقافة، واشترك في تقديمه علماء وباحثون سعوديون من المجمع، وتفاعل معه الأساتذة والطلاب والمؤسسات، مما دل على اهتمام المواطن الصيني باللغة العربية. وتكوّن البرنامج العلمي الذي عُقد في كل مدينة من مجموعةِ أنشطةٍ علميةٍ؛ لتطويرِ مناهجِ تعليمِ اللغةِ العربيةِ، وأداءِ معلمِيهَا، وتعزيزِ وجودِهَا، وزيادَةِ الوعيِّ حولَ موضوعاتٍ متعددةٍ تتناولُ أبرزَ القضايا اللغويةِ. وفي ذات الشهر كذلك أعلن سمو وزير الثقافة عن بدء أعمال جائزة الأمير محمد بن سلمان للتعاون الثقافي بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية، والتي تُعنى بتكريم المتميزين في كلا البلدين الصديقين من الأكاديميين واللغويين في البحوث العلمية والفنون الإبداعية، وتهدف إلى الترويج للغة والآداب والفنون العربية والإبداعية في الصين، وتشجيع التفاهم المشترك والتبادل الثقافي. هذه الجائزة القادمة من قلب الجزيرة العربية تقع في نقطة الالتقاء بين رؤيتين حضاريتين متفقتين في الطموحات وتمنحان الثقافة دوراً أساسياً لتحقيق الأهداف مستلهمةً القيم الثقافية لطريق الحرير التاريخي. وليس ذلك فحسب، فقد أخذ البلدين الصديقين خطوات عدة لتعزيز الاستفادة المتبادلة من التعاون في مجال التعليم وتبادل البعثات التعليمية بين المملكة والصين لإعداد معلمين في تدريس اللغة الصينية، وكما ذكرت سلفاً فإنه جاري العمل حالياً على زيادة عدد المدارس المُدرجة لتعليم اللغة الصينية بالمملكة ضمن مناهجها. كما بدأت المملكة باستخدام اللغة الصينية في اللوحات الإرشادية في مطار العاصمة الرياض والتوسع بإدراجها في اللوحات الارشادية في الأماكن السياحية الرئيسية، ولهذا دلالة واضحة على أن المملكة دوما منفتحة على التنوع الثقافي.
نقدر كثيرا الجهود الصينية المميزة في تعليم اللغة العربية في عدة جامعات صينية، ونثق أن يكونَ لشهر اللغة العربية في جمهورية الصين الشعبية أثر كبير في تكاملِ الجهودِ الهادفةِ إلى النهوضِ باللغةِ العربيةِ، ومدِّ جسور ِالتواصلِ الفعّالِ بينَ الجانبين الصديقين.
ختاماً، على أرض بلادي الغالية المملكة العربية السعودية ولدَت اللغة العربية وابتُكرت حروفها وانطلقت منها شرقاً وغرباً، لتكون هي اللسان المنطوق في رقعة جغرافية واسعة يتحدث بها ما يربو على ٤٧٠ مليون شخص حول العالم، ولمجمع الملك سلمان العالمي ووزارتي الثقافة والتعليم والجهات المعنية الأخرى بالمملكة جهود حاضرة لنشرها، ونثق أن يكونَ لشهر اللغة العربية في جمهورية الصين الشعبية الصديقة أثر كبير في تكاملِ الجهودِ الهادفةِ إلى النهوضِ باللغةِ العربيةِ، ومدِّ جسور ِالتواصلِ الفعّالِ بينَ الخبراءِ وأهلِ الاختصاصِ، فاللغة هي روح الحضارة وأبرز تجلياتها والأممُ تحيا بإحياء لغتها.