منذ اندلاع جولة جديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حظي دور الولايات المتحدة، باعتبارها العامل الخارجي الأكبر طويل الأمد في القضية الفلسطينية الإسرائيلية، باهتمام عالمي واسع النطاق. ويرى ليو تشونغ مين، أستاذ بمعهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية، في مقال نشره مؤخرا على صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية، أنه على الرغم من بعض الجهود الدبلوماسية التي بذلتها إدارة بايدن، إلا أن موقفها المتحيز بشكل أعمى لصالح إسرائيل تسبب في الغاء بعض دول الشرق الأوسط اجتماعاتها مع مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى مؤقتًا. ومن الواضح أن الجولة الجديدة من الصراعات الفلسطينية الإسرائيلية فاجأت الولايات المتحدة، ووضعت سياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط في موقف محرج وبنتائج محدودة.
كما يرى ليو تشونغ مين، أنه انطلاقا من الأسباب الجذرية لاندلاع هذه الجولة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بعوامل كثيرة مثل الصراعات المعقدة بين فلسطين وإسرائيل، لكن السياسة الأمريكية تجاه فلسطين تراجعت بشكل خطير، حيث أصرت على الترويج لـ "اتفاق إبراهيم" لتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، متجاهلة أو حتى تخلت عن "حل الدولتين" للحل السياسي للقضية الفلسطينية (مثل إدارة ترامب)، ولا شك أن التهميش المستمر يشكل عاملاً خارجياً مهماً في اندلاع وتصعيد الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بعد اندلاع الصراع، لم تتوقف الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط. ونشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية مؤخراً مقالاً جاء فيه أن الولايات المتحدة ركزت في السنوات الأخيرة على تعزيز تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية وأهملت حل القضية الفلسطينية. وأن الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد حطمت وهم "الشرق الأوسط الجديد" غير الواقعي الذي تراود الولايات المتحدة. وانتقد ستيفن والت، الباحث الأمريكي المعروف، الأمر بشكل أكثر حدة، قائلا: " تؤكد الجولة الجديدة من المأساة إفلاس سياسة الولايات المتحدة ا تجاه القضية الفلسطينية الإسرائيلية القائمة منذ فترة طويلة ".
ويعتقد ليو تشونغ مين أن السعي إلى الانكماش الاستراتيجي في الشرق الأوسط كان هو الاستراتيجية طويلة المدى لإدارات أوباما وترامب ومن ثم بايدن، لكن التراجع الخطير للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بدأ في عهد إدارة ترامب، ومن أبرز سياساته: الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني وتحريض دول المنطقة على مواجهة إيران بشكل شامل، وتعزيز التحالفات مع إسرائيل والترويج لما يسمى "صفقة القرن"، وتشكيل تحالف مناهض لإيران "النسخة العربية من حلف شمال الأطلسي" يتمحور حول المملكة العربية السعودية، والسعي للحفاظ على التحالف الأمريكي السعودي، وتنفيذ الردع العسكري من خلال شن ضربات عسكرية محدودة في دول مثل سوريا والعراق وأفغانستان.
بعد وصول إدارة بايدن إلى السلطة، وعلى الرغم من تحسن سياستها في الشرق الأوسط مقارنة بطريقة ترامب الخاصة في إدارة الأمور، إلا أن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أصبحت نفعية وواقعية بشكل متزايد، وتخدم بشكل أساسي الاستراتيجية العالمية لمنافسة القوى العظمى، ولم تترك أي تحسن كبير في سياستها في الشرق الأوسط. وفي بداية توليه منصبه، أطلقت إدارة بايدن مفاوضات فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وتهدئة القضايا الساخنة مثل الحرب الأهلية اليمنية، وخفض وتقليص الدعم العسكري للحلفاء مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وجدد التأكيد على "حل الدولتين" لحل القضية الفلسطينية الإسرائيلية، والانسحاب المتهور للقوات من أفغانستان. لكن مع تغيرات الوضع العالمي والشرق الأوسط بعد اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، ظهر التناقض بين التخفيض المستمر للولايات المتحدة في الاستثمار في الشرق الأوسط وارتفاع مكانة الشرق الأوسط الاستراتيجية بسبب التغيرات المتسارعة في المنطقة، وأصبحت عيوب الانكماش الاستراتيجي الأمريكي في المنطقة أكثر بروزا، كما أصبحت سلبية وتجزئة استجاباتها السياسية أكثر وضوحا، مما يجعل من الصعب تحقيق أهداف سياسية.
بعد اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لم تسفر الجهود السياسية التي بذلتها الولايات المتحدة لطلب التعاون من دول الشرق الأوسط في إدانة روسيا ومعاقبتها والامتثال لمتطلبات الولايات المتحدة فيما يتعلق بإنتاج النفط عن أي شيء، واستمر الاستقلال الاستراتيجي لدول الشرق الأوسط في الارتفاع. ومن الجدير بالذكر أنه خلال زيارة بايدن الرمزية لفلسطين، ليس لدى الولايات المتحدة، باستثناء استئناف المساعدات الفلسطينية، أي نية للترويج لاستئناف عملية السلام في الشرق الأوسط، ويمكن القول إنها ليست قادرة ولا راغبة في حل القضية الفلسطينية سياسيا على أساس "حل الدولتين". وفي الوقت نفسه، تحرص إدارة بايدن بشدة على مواصلة الترويج لـ"اتفاقيات إبراهيم" وتطبيع العلاقات بين المغرب والسودان وإسرائيل على أساس تطبيع العلاقات بين البحرين والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في عهد إدارة ترامب.
كما بذلت الولايات المتحدة أيضًا قصارى جهدها لخلق عقبات أمام التعاون بين دول الشرق الأوسط والصين، من أجل الحفاظ على هيمنتها في الشرق الأوسط مع خفض الاستثمار، لكنها فشلت في منع توسيع التعاون بين الصين ودول الشرق الأوسط، بل على العكس من ذلك، قبلت دول الشرق الأوسط بنشاط البناء المشترك لمبادرة "الحزام والطريق"، ولعبت الصين دورا هاما وبناء في عملية المصالحة في الشرق الأوسط وهو ما حظي بترحيب دول المنطقة. ومن الناحية النسبية، من الواضح أن “الآلية الرباعية في الشرق الأوسط" (الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والهند)، وخطة "الممر بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" التي اقترحتهما الولايات المتحدة حصريا هما تدابير جيوسياسية إقصائية، وهي تدابير نفعية وجزئية وسريعة الاستجابة، كما تفتقر إلى الاستدامة بطبيعتها، الأمر الذي يزيد من صعوبة توفير المنافع العامة المستدامة والفعّالة في مجال الأمن والتنمية الإقليميين.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن القيود المفروضة على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سوف تصبح أكثر وضوحا. أولاً: التناقض، أي التناقض الأساسي بين الحد من الاستثمار الاستراتيجي والحفاظ على الهيمنة في الشرق الأوسط. ثانياً: السلبية، فاستراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط لم تعد لديها القدرة على التخطيط بشكل استباقي للتخطيط الاستراتيجي، وأصبحت أكثر سلبية، ثالثاً، على مستوى المعاملات، تتسم الولايات المتحدة بالمزيد من المعاملات الربوية لتحقيق مصالحها. رابعاً: المدمر، حيث يستمر الدور البناء لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في التقلص، في حين أن الدور التدميري كبير للغاية وبارز. خامساً: غير مستدام. وتحدد الخصائص المذكورة أعلاه أنه من الصعب الحفاظ على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
باختصار، أصبحت سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تظهر سمات سلبية على نحو متزايد، ولم يعد بوسعها أن تلعب دوراً مرجعياً وتوجيهياً في شؤون الشرق الأوسط. وفي الجولة الجديدة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لم تلعب الولايات المتحدة دوراً منهجياً وبناءً في التوسط في الصراعات وحل الأزمات، باستثناء التعبير عن الدعم لإسرائيل وزيادة القوة العسكرية للردع. ومع تطور الوضع، أصبحت الرؤية الاستراتيجية الأمريكية لـ "الشرق الأوسط الجديد" مجزأة.