بقلم/ وليد عبدالله
لطالما شغلت قضية تعليم الأطفال المتروكين المجتمع والدولة في الصين. وبحسب إحصاءات التعداد السكاني الصيني السادس، يوجد في الأرياف الصينية مايزيد عن 58 مليون طفلا يعيشون بعيدين عن والديهم من العمّال المهاجرين في المدن. حيث لا يتسنّى لهؤلاء الأطفال رؤية آبائهم وأمهاتهم سوى مرة أو مرتين في السنة، وبذلك ينشأون تحت رعاية الأجداد.
وتشير الدراسات إلى أن هؤلاء الأطفال عادة ما يعانون مشاكل نفسية، مثل الانطوائية وضعف الثقة في النفس، إلى جانب صعوبة التواصل مع أجدادهم نظرا لفارق السن الشاسع. وبسبب عدم وجود الرقابة الأبوية، يكتسب هؤلاء عادات سيئة تؤثر على آدائهم الدراسي، مثل الإدمان على الألعاب الهاتفية ومشاهدة التلفاز لوقت طويل.
لكن في بلدة جيتشيانغ التابعة لمحافظة شيجي من مقاطعة نينغشيا ذاتية الحكم لقومية هوي، توجد مدرسة نائية تلفها الجبال من كل جانب، تمكّنت من صنع قصّة مختلفة للأطفال المتروكين في الأرياف. فنتائج التلاميذ في هذه المدرسة الداخلية، ليست جيدة وحسب، وإنما ضمن المراتب الأولى على مستوى المحافظة. حيث حققت نسبة نجاح 100% في إمتحانات الإلتحاق بالمدارس الثانوية.
يبدو هذا الإنجاز شبه معجزة بالنسبة لمدرسة ريفية نائية، إذا ما علمنا أن متوسط الإلتحاق بالمدارس في كامل المحافظة عند مستوى 50 %، وأن 63 % من تلاميذ الأرياف في الصين لايجتازون امتحان الإلتحاق بالمدارس الثانوية، بحسب إحصاءات عام 2017. فكيف استطاعت هذه المدرسة تحقيق هذه النتائج المضيئة؟
من خلال زيارتي إلى المدرسة والمقابلات التي أجريتها مع المسؤولين والمدرّسين، وجدّت بأن هناك ثلاثة عوامل أساسية وراء النتائج المبهرة التي حققتها هذه المدرسة الريفية في تعليم الأطفال المتروكين. أولا، المنشآت التعليمية المتقدمة، فقد قامت الدولة في إطار مشروع الحد من الفقر ببناء مدرسة متطورة تتوفر على جميع المنشآت التعليمية متعددة الوسائط والمنشآت الترفيهية، من ملاعب رياضية وقاعات فنون. ثانيا، تعتمد المدرسة نظاما داخليا، يختصر على التلاميذ عناء التنقل ويبقيهم تحت رقابة المدرسة في ظل غياب أولياء أمورهم. ثالثا وهو الأهم في نظري، هو اعتماد المدرسة مفهوما تعليميا يراعي خصوصية الأطفال المتروكين. ويقول مدير المدرسة جين شينغ وانغ، بأن المدرسة تعطي نفس درجة الأهمية للجوانب الدراسية والحياتية للتلاميذ. وأن تعليم هذه الفئة من الأطفال تتطلّب من المدرّسين لعب دور المدرّس والأبوين في ذات الوقت، والإهتمام بجميع التفاصيل: دراستهم، راحتهم، نومهم، لعبهم ...كما تقدّم لهم المدرسة الإحاطة النفسية، سواء عبر الخبراء أو من خلال التواصل مع والديهم في المدن بشكل دائم.
إلى جانب تقديم الرعاية اللازمة للأطفال، تعمل المدرسة أيضا على تدريبهم على الإستقلالية والإعتماد على النفس. فحينما تدق ساعة الطعام، يدخل التلاميذ بشكل منظم إلى المطعم المدرسي، ثم يتقاسمون الأدوار. منهم من يحمل أطباق الأرز ومنهم من يحمل طناجر الأكل وآخرون يحملون أوعية الحساء والمكانس، ثم يوزعون الطعام بينهم دون تدخل أو مساعدة من أحد. ولايغادرون المطعم إلا بعد أن يتركوه نظيفا مرتبا مثلما وجدوه. ويقول جين شينغ وانغ، "نحن نريد أن نجعل الأطفال يتحدّون أنفسهم، ويتجاوزون قدراتهم ويساعدون أنفسهم بأنفسهم أيضا. ومن لم ينجح في الدارسة، يمكنه على الأقل أن يكتسب شخصية تؤهله لإثبات نفسه داخل المجتمع."
أما بالنسبة للمدرّسين، فتعليم الأطفال المتروكين ليس مجرّد مهنة، وإنما قضية إنسانية ومسؤولية ثقيلة وشغف كبير. ومن خلال حواري مع عدد منهم، شعرت بإيمانهم بقضية التعليم في الأرياف، وارتباطهم الوجداني العميق بالأطفال، وأمالهم العريضة نحوهم. مدرّس الإنجليزية جيانغ هاي جين، يبلغ الآن 48 سنة، وقد قضّى 22 عاما في التدريس بالمدارس الريفية ببلدة جيتشيانغ. ورغم صعوبة عمله والسنين الطويلة التي قضّاها هنا، لكنه لم يفقد الحماس، ومازال الحلم الطفولي متوهجا بداخله. وداخل الفصل كان بمثابة شعلة متوقدة بالحماس والطاقة، بدا سعيدا وهو يدرّس الأطفال والإبتسامة لاتفارق وجهه. هذه الطاقة ينقلها إلى تلاميذه، الذين يتفاعلون مع أسئلته ببديهة سريعة وحماس. ورغم أن تعليم اللغة الإنجليزية كان دائما معضلة التعليم في الأرياف، إلا أن تلاميذه يتحدّثون الإنجليزية بطلاقة.
المدرس جيانغ، ولد أيضا ببلدة جيتشيانغ، وقد عايش في طفولته معاناة أطفال الأرياف في الحصول على التعليم. وأخبرني بأنه حينما كان في عمر تلاميذه، كان عليه أن يتنقل 15 كيلومترا يوميا للذهاب إلى المدرسة. وقبل 22 عام، تخرج جيانغ في جامعة نينغشيا للإذاعة والتلفزيون. سألته لماذا لم يفكر في الذهاب إلى المدن بعد التخرج، من أجل مستقبل مهني وجودة حياة أفضل له ولأبناءه. فأجابني : "لقد إتبعت حلمي!"، وهذا الحلم هو أن يصبح معلّما في الأرياف. ثم يمضي قائلا: "أريد أن أعلم أطفال الأرياف الإنجليزية، فهذا يمنحهم أجنحة يطيرون بها فوق الجبال ليعرفوا العالم المتنوع والصاخب في الخارج".
مدرّس الرياضيات لي دجي جييه، قضّى 23 سنة في التعليم بأرياف شيجي. وخلال حواري معه، شعرت بارتباطه العميق بالأطفال. أخبرني المدرس لي، بأن وصيّة والده له وهو يحتضر، بأن يبذل مافي وسعه لمساعدة أطفال القرية على النجاح ومغادرة الجبل. كان ذلك بعد 8 أيام فقط منذ استلام لي مهمة التدريس في شيجي، ومن حديثه فهمت بأن وصية الأب، قد جعلت من مهنة تدريس أطفال الأرياف قضيّة ومسؤولية ثقيلة بالنسبة للمدرّس الشاب. وأخبرني لي، بأن أكبر تحد يواجه المدرّس في تعليم الأطفال المتروكين، هو التعامل مع مشاعر فقدان الثقة في النفس بسبب الإهمال العاطفي، وأن تحفيزهم ومنحهم الإهتمام والمشاعر، يمكن أن يغيّر سلوكهم وموقفهم من الدراسة. "هل تتصور، أن كعكة عيد ميلاد سعرها 28 يوان يمكن أن تغيّر طفل؟!" يقول المدرس لي. ويحدثني هنا، عن قصّة تمليذ سيء السلوك ومهمل للدراسة. فهم المدرّس بأن هذه الطباع مصدرها الحرمان العاطفي ونقص الإهتمام. وفي عيد ميلاد هذا التلميذ، اشترى له كعكة واحتفل معه بعيد ميلاده. لاحظ المدرّس لاحقا، بأن هذه الحركة البسيطة قد كان لها أثرا عميقا في نفس التلميذ. ومنذ تلك اللحظة، أخذ يتغيّر إلى الأفضل وبات أكثر اجتهادا في الدراسة. يقول المدرّس لي، إن بعض التلاميذ المتروكين، قد يبدون أغبياء، لكن منحهم الإهتمام والأخذ بيدهم يمكن أن يقلب فشلهم الدراسي إلى تفوق. وقد روى لي قصة تلميذ كانت نتائجه الدراسية ضعيفة، حيث حصل في بداية الأمر على 19 نقطة فقط في الرياضيات، فيما كانت رتبته في الفصل 47 من أصل 50، و253 من أصل مايزيد عن 260 تلميذا في المدرسة. لكن مزيدا من الإهتمام بتعليمه، قلب مصير الطفل رأسا على عقب. و الـ 19 نقطة في الرياضيات أصبحت 98. وفي امتحان القبول الجامعي، كان هذا التلميذ هو الناحج الوحيد في مدرسته الثانوية، وبعد تخرجه من الجامعة أصبح موظفا بنكيا. أخبر التلميذ مدرسه ذات يوم بأنه الشخص الذي غيّر حياته. بكى المدرّس متأثرا حينما روى لي هذه القصّة، وفهمت من تأثره حجم التضحية التي يبذلها معلّمو الأرياف، ورجائهم غير المنقطع بأن يروا تلاميذهم يحققون أحلامهم.
أما مدرسة الإنجليزية فو فانغ فنغ، فترى أن الإقتراب من الأطفال وفهم همومهم يمكن أن يساعد على تحسين نتائجهم الدراسية. "أحاول أن أقترب إلى التلاميذ وأتعرف على مشاكلهم. العديد من التلاميذ الذين لديهم نتائج دراسية ضعيفة، هم في الحقيقة يشعرون بالوحدة". تقول المدرسة فو بأن اقترابها من التلاميذ، يجعلهم يثقون بها، ويبوحون لها عن مشاكلهم. وهذا يساعدها في التعامل معهم واختيار الطريقة المناسبة لتحسين آدائهم الدراسي.
قال لي مدير المدرسة، السيد جين شين وانغ، بأن مايعملون على فعله، هو تغيير حياة أطفال الأرياف من خلال التعليم. وقد شعرت من خلال زيارتي لهذه المدرسة ومقابلتي للمسؤولين والمدرّسين، بأن التعليم هنا هو رسالة عظيمة بالنسبة لهم. وأن مساعدة الأطفال على النجاح ومغادرة القرى الجبلية هو منبع فخر كبير للمدرسين. لكنني مهما حاولت، فلن ألامس عمق مشاعر تعلق المدرسين بالأطفال، ولن أفهم مدى رمزية نجاح التلاميذ بالنسبة للمدرسين. الأستاذ لي قال لي بأنه يظل يتابع تلاميذه حتى بعد الإلتحاق بالجامعة، ولا يتردد عن دعمهم مادّيا رغم أنه المعيل الوحيد لأسرته. من هنا فهمت، لماذا استطاعت هذه المدرسة الريفية تحقيق معجزة، لأن المعجزة لايحققها غير الأبطال.