روابط ذات العلاقة
جريدة الرؤية_ فيصل السعدي
انطلقت أعمال المنتدى العماني الصيني "علاقات تاريخية وآفاق واعدة"، في يوم الخميس المنقض بعمان، وذلك تزامنا مع الذكرى العاشرة للبناء المشترك لمبادرة "الحزام والطريق"، ومرور 45 عامًا على إقامة علاقات الصداقة الدبلوماسية بين سلطنة عُمان وجمهورية الصين الشعبية، بتعاون ثلاثي بين جريدة "الرؤية" وجمعية الصداقة العُمانية الصينية، وسفارة جمهورية الصين الشعبية لدى سلطنة عُمان.
وبدأت أعمال المنتدى بكلمة ترحيبية قدمها المكرم حاتم بن حمد الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية والأمين العام للمنتدى، أكد خلالها أن ظفار كانت بمثابة همزة وصلٍ بين الحضارتين العُمانية والصينية، ومنارةً سامقةً تهتدي بها السفنُ الصينيةُ التي مخرتْ عبُابَ البحارِ، لتصلَ إلى شبهِ الجزيرةِ العربيةِ، وتستكشف كنوزها الثمينة، وفي المقدمة اللُبان الظفاري، بعطره الزاكي، وخصائصه الطبية المُميزة والتي أدركها الحكماء الصينيون، واستفادوا منه في العديد من الصناعات.
وقال الطائي إن سلطنةُ عُمانَ احتفظتْ بعلاقاتٍ صداقةٍ متينةٍ معَ الصينِ على مَرِ العصور، سواءً في الحقب الزمنية السابقة، أو في العصر الحديث، ففي الماضي جميعنا يعلم برحلات البحّار العُماني عبدالله بن القاسم الشهير بـ"أبي عبيدة"، ماخرًا الأمواج العاتية بالمحيطين الهندي والهادئ، من صحار إلى مدينة قوانغتشو الصينية قبل ما يزيد عن ألفٍ ومئتي عامٍ، وغيرهم من أسياد البحار العُمانيين الذين تواترت أخبارهم وسيَرَهم في كُتب التاريخ وعلى لسان الأجداد. وأضاف أن القائد البحري الصيني الأدميرال "تشنغ خه"، والذي عرفه العُمانيون والعرب باسم (حجّي محمود شمس الدين)، والذي وفد إلى شبه الجزيرة العربية من البوابة العُمانية في القرن الخامس عشر، زار عُمان قبل أكثر من ستمائة سنة، وذلك ضمن رحلاته البحرية السبعة، التي انطلق بها بأوامر من الإمبراطور الصيني في عهد أسرة مينغ الملكية.
وتابع أن كل هذه الأحداث وغيرها، مما وصل إلينا من تاريخ العلاقات العُمانية الصينية القديم والحديث، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن عُمان والصين حرصتا طيلة الحقب التاريخية المختلفة على علاقات صداقة تخدم مصالح البلدين والشعبين، وتتعاطى مع التحديات ببصيرةٍ وحكمةٍ. وأكد الطائي أن الحفاظ على هذه العلاقات ساهم في انتعاش التجارة بين عُمان وبلاد العرب من جهة والصين من جهة أخرى، وما طريق الحرير إلّا خير شاهدٍ على هذه الحركة التجارية النشطة؛ إذ كان التبادل التجاري الركيزة الأساسية في نمو العلاقات وازدهارها، والمُنطلق الذي من خلاله سعت الصين إلى بناء جسر راسخ من الروابط الاقتصادية، في مختلف العهود والحُكّام. وذكر الطائي أن مما يبرهن على قوة تلك العلاقات، أنه على الرغم من نفوذ الدول الكبرى في حقب تاريخية مضت، والكثير منها انتهج المسار الاستعماري، إلّا أنَّ الإمبراطورية الصينية نأت بنفسها تمامًا عن هكذا مسار، واستثمرت العلاقات في ترسيخ أواصر التعاون الاقتصادي.
وقال: "لذلك عندما نعقد مقارنةً بين وصول الأسطول الصيني بقيادة الأدميرال "تشنغ خه" إلى السواحل العُمانية لمرات عدة، وبصحبته نحو 28 ألف من البحرية الصينية بصحبة 317 سفينة، وبين وصول الأسطول البرتغالي بقيادة ألفونسو دي ألبوكيرك، نكتشف الفوارق العظمى بين الحضارتين الشرقية والغربية؛ فالصينيون سَعُوا إلى التعاون وبناء الشراكات التجارية وتعزيز روابط الصداقة مع الشعوب، بينما الحملات البرتغالية مارست القتل والتنكيل والتدمير في مدن الساحل العماني". وتابع: "يؤكد ذلك أن الحضارة الشرقية ترتكز في جوهرها على الروحانيات والاحترام والتسامح والتعايش مع الآخر حتى لو كان مختلفًا في كل شيء، بينما الغرب دائمًا ما ينتهج العنف والقتل والدمار".
وأشار إلى أن المسار التعاوني بين عُمان والصين امتد حتى عصرنا هذا، بفضل حكمة قيادتي البلدين، والحرص المُشترك على الارتقاء بعلاقات الصداقة إلى أبعد مدى مُمكن، وفق ثوابت وطنية تقوم على تبادل المصالح وتعزيز القيم المُشتركة.
وشدد الأمين العام للمنتدى على أن العلاقات الاقتصادية والثقافية تُمثلُ ركيزة أساسية لمستقبل التعاون العماني الصيني في العصر الحالي، لافتًا إلى أن الاستثمارات الصينية في عُمان تتجاوز 6.6 مليار دولار، ومعظمها يتركز في قطاع الطاقة والبتروكيماويات، لكن ثمة استثمارات أخرى بدأت تتزايد في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، كما تتواصل الجهود الساعية إلى استقطاب المزيد من الاستثمارات، في ضوء تحقيق مُستهدفات الرؤية الطموحة "عمان 2040"، لا سيما في القطاعات الواعدة منها.
وتطرق الطائي للحديث عن مبادرة "الحزام والطريق"، والتي تجمع ما يزيد عن 147 دولة و32 منظمة دولية، وقال إنها تمثل أضخم مشروع تنموي في التاريخ، وتعكس الأبعاد الحضارية للجهود الصينية الرامية إلى تعزيز العلاقات مع مختلف دول العالم، ومن بينها سلطنة عُمان. وقال الطائي: "نحن في عُمان، نرحبُ دائمًا بأية مبادرات خلّاقة تُسهم في تعزيز مسارات التنمية، وتدعم أواصر التعاون القائمة على تحقيق المصالح المشتركة وفقًا لأولويات كل دولة".
ومضى الطائي قائلًا: "عندما نتحدث عن العلاقات الثنائية بين عُمان والصين ونسبر أغوارها في الحقب الماضية البعيدة منها والقريبة، فإنَّنا في الوقت ذاته، نسعى لاستشراف مستقبل هذه العلاقات، والإسهام في وضع تصوُّرات ترسخ روابط التعاون، وتستفيد من الإمكانيات المشتركة، خاصةً وأن البلدين يواصلان مسيرتيهما نحو آفاق أرحب من التنمية والازدهار، في ظل القيادة الحكيمة لقائدي البلدين".
وحث الطائي الشركات العُمانية على العمل من أجل بناء شراكات ثنائية مع شركات صينية، في مختلف المجالات، لا سيما المجالات المرتبطة بالتقنيات الحديثة، في مجالات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والبرمجيات، مع التركيز على توطين التقنيات عبر تأسيس استثمارات مشتركة في قطاع التصنيع.
واختتم الطائي كلمته بتقديم "كل التحية والتقدير إلى الجهود الدبلوماسية التي تتضافر من أجل تحقيق المصالح المشتركة لكلٍ من سلطنة عُمان وجمهورية الصين الشعبية الصديقة، ويحدونا الأمل نحو المزيد من التعاون والعمل المشترك، بما يخدم الأهداف التنموية التي نسعى لها جميعًا".
عقب ذلك، ألقت سعادة لي لينغ بينغ سفيرة جمهورية الصين الشعبية لدى سلطنة عُمان، كلمة أعربت في مستهلها عن سعادتها بتواجدها في ولاية صلالة، للمرة الثانية في 3 أشهر، عندما احتفلت السفارة بتدشين النصب التذكاري للأدميرال البحري الصيني تشنغ خه تزامنًا مع الذكرى الـ45 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وعُمان، معبرة عن سعادتها بأن النصب التذكاري على شاطئ الحافة أصبح نقطة جذب خلابة يزورها الكثير من السياح. وقالت إن هذا النصب التذكاري يرمز إلى الصداقة الصينية العمانية عبر طريق الحرير البحري على مر التاريخ.
وذكرت سعادتها أنه قبل عشر سنوات، طرح الرئيس الصيني شي جينبينغ مبادرات التعاون لبناء "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير الجديد" و"طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، وذلك انطلاقًا من التغيرات الكبرى التي لم يشهدها العالم منذ 100 سنة. وأوضحت أن المحتوى الرئيسي للبناء المشترك لـ"الحزام والطريق" يتضمن 5 جوانب تتمثل في: تناسق السياسات، وتواصل إنشاء الطرق، وتيسير التجارة، وتداول الأموال، والتفاهم بين الشعوب. وأضافت أن المبادرة أكدت أهمية التشاور المشترك والمساهمة المشتركة والمنافع المشتركة لجميع البلدان، ودمجت تنمية الصين مع تنمية البلدان الأخرى في العالم، ومنحت طريق الحرير القديم دلالة جديدة في العصر الحديث.
وأشارت سعادة السفيرة الصينية إلى أنه على مدى السنوات العشرة الماضية، تعمل الصين مع شركائها على التطوير عالي الجودة لمبادرة "الحزام والطريق"، وتحويل المبادرة من مخطط إلى واقع، خاصة فيما يتعلق بالتزامها بتعزيز بناء مرافق الطاقة والبنية التحتية، الأمر الذي عزز الترابط والتواصلات بشكل فعال وأصبح محركًا جديدًا لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة وتعزيز العولمة الاقتصادية.
وقالت: "حتى يناير 2023، وقعت الصين أكثر من 200 ثيقة لتعاون بشأن البناء المشترك لـ«الحزام والطريق» مع 151 دولة و32 منظمة دولية، تُغطي الاستثمار والتجارة والتمويل والتكنولوجيا والمجتمع والعلوم الإنسانية ومعيشة الناس والعديد من المجالات الأخرى، وأظهر ذلك المفاهيم المتمثلة في الانفتاح والشمولية وتبادل التعلم والاستفادة والمشاركة في التشاور والبناء والتمتع لتحقيق نتائج مثمرة في بناء طريق الحرير".
وأضافت سعادتها أنه بين عامي 2013 و2023، ازداد حجم التجارة في السلع بين الصين ودول "الحزام والطريق" من 1.07 تريليون دولار أمريكي إلى 2.07 تريليون دولار أمريكي، ووصلت الاستثمارات المتبادلة أكثر من 270 مليار دولار أمريكي. ومضت تقول: "حتى نهاية عام 2022، لقد استثمرت الشركات الصينية 57.13 مليار دولار أمريكي في مناطق التعاون الاقتصادي والتجاري التي أنشأتها في البلدان الواقعة على طول الطريق والحزام، وخلقت 421 ألف فرصة عمل محلية، إضافة إلى تشكيل أكثر من 3000 مشروع تعاون، وتفعيل ما يقرب من تريليون دولار أمريكي من الاستثمار، الأمر الذي حقق "حلم السكك الحديدية" و"حلم الجسر" و"حلم القضاء على الفقر" للشعوب في كثير من الدول.
وقالت السفيرة الصينية: "بالنسبة إلى الصين وسلطنة عمان، تمثل مبادرة ’الحزام والطريق‘طريقًا للمنفعة المتبادلة والكسب المشتركة ذات الأهمية الكبيرة، ففي مايو عام 2018، وتزامنًا مع الذكرى الأربعين لإقامة العلاقة الدبلوماسية بين الصين وسلطنة عمان، وقّع الجانبان على مذكرة تفاهم بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة سلطنة عمان حول العمل المشترك لدفع بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين.
وأضافت أنه على مدى السنوات الخمسة الماضية، وبفضل التناسق بين مبادرة "الحزام والطريق" ورؤية "عُمان 2040"، جرى تعميق العلاقات الساسية والاقتصادية بين البلدين، وحتى نهاية عام 2022، بلغت قيمة الأعمال لمشروعات المقاولات للشركات الصينية في سلطنة عمان 9.5 مليار دولار أمريكي، وبلغ حجم الاستثمارات التراكمية 3.5 مليار دولار أمريكي، أما في الفترة من يناير إلى ديسمبر عام 2022، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وعمان 40.45 مليار دولار أمريكي بزيادة سنوية وصلت إلى 25.8%. وأوضحت سعادتها أن قيمة واردات الصين من سلطنة عمان سجلت ارتفاعا نسبته 26.7% لتبلغ 36.24 مليار دولار، وبلغت قيمة عقد المشروع الذي وقعته الصين حديثًا في عمان 660 مليون دولار أمريكي، وبلغت قيمة الأعمال المنجزة 1.09 مليار دولار أمريكي، بزيادة سنوية قدرها 100.49%.
وأشارت سعادتها إلى أن الاستثمار الصيني المباشر الجديد في عمان بلغ 21.74 مليون دولار أمريكي، بزيادة سنوية قدرها 116.75%.
وذكرت سعادة السفيرة أنه منذ بداية العام الجري، وقّعت العديد من الشركات الصينية العاملة في مجالات التصنيع والتعدين والطاقة الجديدة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، اتفاقيات لتنفيذ مشاريع استثمارية وهندسية جديدة في سلطنة عمان.
وقالت سعادتها إن الصين ستستضيف في أكتوبر المقبل منتدى "قمة التعاون الدولي الثالث" لمبادرة "الحزام والطريق"، مما يضخ زخمًا جديدًا ويبعث أملًا جديدًا للانتعاش الاقتصادي العالمي والتنمية المستدامة العالمية.
واختتمت سعادته بالقول إن الصداقة بين عمان والصين تمر اليوم بنقطة انطلاق تاريخية جديدة وتنتظرها فرص جديدة للتنمية، مؤكدة أن الصين ستعمل مع سلطنة عمان على تعزيز الصداقة والتبادلات والتعاون بشكل متواصل في مختلف المجالات، وتعميق الصلة بين البناء المشترك لـ"الحزام والطريق" ورؤية "عُمان 2040"، وهي الرؤية المستقبلية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق، مع توسيع التعاون العملي في مجالات متعددة، وبناء مجتمع المستقبل المشترك لتحقيق المنفعة المتبادلة والكسب للكل والتنمية المشتركة بما لخير شعبي بلدينا بشكل أفضل.
كما ألقى الدكتور خالد بن سالم السعيدي رئيس جمعية الصداقة العُمانية الصينية، كلمةً، أكد فيها أهمية انعقاد المنتدى العماني الصيني، الذي يأتي ضمن جهود تعزيز التعاون بين البلدين الصديقين. وقال السعيدي إن العلاقات العمانية الصينية تحظى بدعم مباشر من قيادتي البلدين الصديقين، الحريصين على السير بهذه العلاقات نحو مزيد من التقدم والتطور؛ بما يخدم المصالح المشتركة، ويعود بالنفع والخير على الشعبين الصديقين؛ من خلال تعظيم التبادل التجاري والاقتصادي وتشجيع الاستثمار.
وأضاف: "إننا في سلطنة عمان، وإذ نتلمس خُطى واثقة نحو مستقبل تزاحم فيه بلادنا على مصاف الدول المتقدمة وفق أولويات ومستهدفات رؤية عُمان عشرين أربعين، والتي تتضمن من بين عديد الطلعات الطموحة أن تكون الموانئ العمانية بشكل خاص، والسلطنة بشكل عام، مركزًا لوجستيًّا ومحطة رئيسية من محطات مبادرة "الحزام والطريق"، تمامًا كما كانت قبل ذلك في العصور الماضية".
وتابع القول: "إنه لمن يُمن الطالع أن تتوافق هذه الرؤى مع سجلات تاريخية كتبها العُمانيون الأوائل بمداد من ذهب، ممن مَخَرُوا عُبَاب البحار وشيَّدوا علاقات تجارية وثقافية مع حضارات العالم القديم، لا تزال تشيد وتشير إليها كتب التاريخ، حتى قبل وصول السندباد العماني أبي عبيدة عبدلله بن القاسم الصحاري إلى ميناء كانتون بمقاطعة كوانزو الصينية، إضافة لسجل حافل من العلاقات الدبلوماسية والتقدير الدولي للسياسة الخارجية العُمانية، وعلاقات أخوة وصداقة مع العالم أجمع، وفي القلب منها وبخصوصية أكبر جمهورية الصين الشعبية، التي تتوافق رؤانا معهم في حق العالم أن ينعم بالسلام والوئام، دون التدخُّل في الشؤون الدخلية للغير، مع إيمان راسخ بأن الحوار ثم الحوار هو الطريق الأمثل والحل الناجع لكافة الخلافات أيًّا ما كان سببها ومنشؤها.. وهو في رأيي نتاج انتماء كلا البلدين لاثنتين من أقدم حضارات الشرق الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ".
واستطرد السعيدي قائلا: "يحق لنا نحن العمانيين أن نزهو ونفخر بما سطرته كتب التاريخ، وما جاء على لسان المؤرخين الصينيين من ذكر لمحطات مهمة؛ على مستوى التبادل التجاري والحضاري الذي يمتد لما قبل الميلاد، فكما تشير وثائق الحوليات الصينية التي تُرْجِمت بعض نصوصها إلى اللغة العربية، فإن تلك العلاقات بدأت فعلاً في القرن الأول قبل الميلاد، وتحديداً في عهد الإمبراطور تشانغ تشيان الذي ينتمي إلى أسرة "هان"، كما أنَّ المؤرِّخ الصيني "فواين جانغ" ذكر في كتابه "مبادئ الشرق" أنَّ اللُّبان كان ضمن السلع التي يتم استيرادها من ظفار، وذكر كذلك المؤرخ الصيني "لي يوساي" أنه "كانت تقام سوق سنوية في بادانيا بمنطقة الخليج تعرض فيها السلع الصينية". وكما هو معلوم فإنَّ بادانيا هي دبا العمانية التي كانت العاصمة السياسية والاقتصادية لأسرة آل الجلندى في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام".
وأكد السعيدي أن جمهورية الصين الشعبية تُمثِّل اليوم نموذجاً متفرداً في الدبلوماسية الاقتصادية والقوة الناعمة، والتي تعدُّ مبادرة "الحزام والطريق" أحد عناوينها الرئيسية؛ تلك المبادرة الإستراتيجية الإنمائية التي تهدف لإنشاء شبكة تجارية تتألف من جزأين؛ هما: حزام طريق الحرير الاقتصادي البري، وطريق الحرير البحري، وبلا أدنى شك ستُسهم هذه المبادرة في تعزيز مشاريع البُنى الأساسية التي تمتد من آسيا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا لتربط فيما بعد اقتصاديات آسيا وإفريقيا بالاقتصاديات الأوروبية والأمريكتين. كما تتضمن المبادرة تطوير الاستثمارات في أكثر من مائة واثنتين وخمسين دولة ومنظمة دولية في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وحتى الأن وقعت أكثر من مائة وست وعشرين دولة وتسع عشرة منظمة دولية، اتفاقات تعاون مع بكين في إطار هذا المشروع الواعد.
واختتم السعيدي كلمته بالتعبير عن اعتزاز جمعية الصداقة العمانية الصينية، بأن تكون جزءًا من هذا المنتدى الطامح لتعزيز التقارب والتعاون مع جمهورية الصين الشعبية؛ حيث إنَّ هذه الجمعية تأسست في العام 2010، بهدف تنمية وتوثيق أواصر الصداقة بين سلطنة عُمان والصين في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والرياضية.
وقدّم الدكتور عبدالله بن صالح السعدي سفير سلطنة عُمان لدى جمهورية الصين الشعبية سابقًا كلمة بعنوان "دبلوماسيّة السّلام وتوافقيّة الرّؤى"، أعرب فيها عن سعادته بالمشاركة في المنتدى العُماني الصيني "علاقات تاريخيّة وآفاق واعدة" بمناسبة مرور 45 عاما على العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين الصديقين.
وقال السعدي: "لقد نلتُ شرف المساهمة في خدمة العلاقات العُمانية الصينية لما يربوعلى 12 عامًا، حينما كنت سفيرًا لسلطنة عُمان من العام 2006 ولغاية العام 2020، وقد لمستُ خلالها المشاعر الخاصّة التي يُكنّها الشعب الصيني تجاه الشعب العماني ويعتزّ كثيرًا بتلك الاتصالات الوديّة بين البلدين عبر التاريخ". وأضاف: "كان طريق الحرير البري وطريق البخور البحري خلال القرن السادس الميلادي وشاجًا، ربطَ بين الشعبين الصديقين، كما إن التبادلات التجاريّة والنشاط بين الشعبين والتواصل بين الحضارتين القديمتين، قد تعمَّق عبر التبادل التجاري؛ ابتداءً من أسرة تانغ وأسرة سونغ بشكل خاص، أقبل أفراد الطبقة العليا من المجتمع الصيني على استهلاك البخور فكانت الصين تستهلك كمية كبيرة من البخور، وحسب إحصاء التجارة الخارجية الصينية في عام 1077 بلغت كمية البخور التي وصلت الى ميناء كانتون 147 طن، معظمها من ظفار العمانيّة التي تلقّب في الصين بشاطئ البخور".
وأوضح أنه لذلك السبب سُمي الطريق البحري بين عمان وجنوب الصين بطريق البخور، وأنه عبر هذا الطريق جاء التجّار العمانيون إلى الصين بسلعٍ مثل: الكتّان والقطن والصّوف والسّجاد، إضافة إلى اللّبان العماني. وتابع قائلًا: "كانت هذه السفن تعود بالحرير والخزف والمسك والكافور وغيرها من المنتجات الصينية ومن بين هؤلاء التجار العمانيون الشيخ عبد الله العماني، الذي تولّى منصب رئيس هيئة الشؤون الخارجية في كانتون (القنصلية حاليًا)، وعاش في كانتون عشرات السنين، وقد قام البحّار الصيني الشهير تشنغ خه بسبع رحلات بحريّة إلى المنطقة؛ حيث زار أسطوله عمان 4 مرات، وقد واصلت التبادلات بين عمان والصين تطورها على مدى نحو 1500 سنة من أسرة هان إلى أسرة مينغ الملكيّتين".
وأضاف السعدي أن الصين ظلّت تدعم عُمان بثبات في المحافظة على استقلال سيادتها واستقرار مجتمعها، وفي استكشاف طريق التّنمية الذي يناسب ظروفها الوطنيّة بإرادة مستقلّة، كما التزمت عمان بحزم بمبدأ الصين الواحدة، وهي تتفاهم مع الصين وتدعمها في القضايا المتعلقة بمصالح الصين الجوهريّة.
وذكر أنه في يوم 25 مايو 2018، وبمناسبة الذكرى الأربعين على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين عُمان والصين، أعلنت الدولتان قيام "الشراكة الاستراتيجية" بينهما ووقّعتا على وثيقة التعاون لـ"الحزام والطريق"؛ مما دفع بالعلاقات بينهما إلى مرحلة جديدة من التطور والنماء.
وقال إن الدبلوماسية العمانية تقوم على أسس ومرتكزات واضحة، وتقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الآخرين، في الوقت الذي لا تسمح فيه حكومة سلطنة عمان في التدخل في شأنها الداخلي وهوذلك النهج الذي تأسّس منذ فجر النهضة المباركة مطلع السبعينيات ويتعزّز اليوم في عهد حضرة صاحب الجلالة السّلطان هيثم بن طارق المعظّم- حفظه الله ورعاه.
وأكد السعدي أن سياسة سلطنة عمان تتميّز بالواقعيّة والتكيّف مع الظروف المتغيّرة دون المساس بالمرتكزات فثمّة مبادئ جليّة هي الإيمان الكبير بأن العالم بشكل عام يجب أن يسوده السّلام والإخاء وأن يقوم نسيج العلاقات بين الدول على المنافع المشتركة التي تقود إلى تعزيز فرص التعايش الأخوي والصداقات بين الشعوب والدول مما ينعكس على المناحي الاقتصادية والتجارية والثقافية والمعرفية الخ...
وقال إن هذه المبادئ الاستراتيجيّة الثابتة التي لها أفق بعيد المدى ورؤية استشرافية للأمور ومعلوم أن كلّ ما يتأسّس على المبادئ الإنسانية السمحة يكون له طابع الديمومة والاتّزان والبقاء لفترة أطول، وهو جوهر المعنى الإنساني في صلب وصميم تلك الفلسفة العمانيّة للعلاقة مع الآخر من الجار القريب إلى الصديق القريب أوالبعيد جغرافيّا.
وأشار إلى أنّ وجهات النظر المختلفة والمتنوعة تظلّ محترمة ومقدّرة بين الأطراف وأنّ الكلّ يجب أن يضع الاعتبار لرؤية الآخر ومنهجه باتجاه الموضوع أوالقضية المعينة وفي ظل هذا الإطار يجب على الجميع أن يفكروا بشكل أفضل بما يحقق المنفعة المشتركة.
ومضى قائلًا: "تنتهج الصين أيضا سياسة خارجية سلمية مستقلة وتلتزم باستراتيجية الانفتاح ذات المنفعة المتبادلة والمربحة للجانبين وداعم قوي للسلام العالمي والنظام الدولي ومساهمة في التنمية العالمية، في الوقت الذي تواجه فيه التنمية العالمية تحديات خطيرة، فإن استضافة الصين لمنتديات وقمم الحزام والطريق للتعاون الدولي من أجل تعزيز التنمية وسعيا لبناء مصير مشترك للبشرية جوهره ترابط جميع دول العالم وصولا إلى وحدة وتعاون دولي".
وشدد على أن الثّقة المتبادلة الاستراتيجيّة بين البلدين تزداد عمقًا؛ حيث تتمسّك عمان والصين بطريق التنمية السلميّة وتعارضان الهيمنة وسياسة القّوة بجميع أشكالها والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتدعوان إلى الحلّ السلمي للقضايا الإقليميّة من خلال المفاوضات والحوار. وقال إنه نتيجةً لهذه الرؤية السياسية الحكيمة والتي تتبناها كلتا الدولتين، فقد أسهما بدور كبير في رأب الصّدع وحلّ الكثير من المشاكل الإقليميّة والدوليّة التي جنّبت العالم الكثير من الويلات المحتملة، وعزّزت السّلام والأمن الدوليّين.
جلسة نقاشية
واشمل المنتدى جلسة نقاشية شارك فيها الدكتور محمد بن سعد المقدم أستاذ مساعد بقسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية سابقاً، و"شا يانج" الرئيس التنفيذي لشركة "عُمان لنس" ورئيس نادي الجالية الصينية في سلطنة عُمان، والباحث والإعلامي الدكتور أحمد علي محمد المشيخي، وتشين جيانهان الرئيس التنفيذي لشركة هواوي للاستثمارات التكنولوجية، و"وانج هوا" المدير العام لشركة دليل للنفط، والدكتورة مريم بنت سعيد البرطمانية الباحثة بجامعة السلطان قابوس، والباحث والكاتب في الشؤون السياسية مسعود أحمد بيت سعيد.
واستعرض المشاركون في الجلسة العُمق التاريخي للعلاقات العمانية الصينية من المنظور العُماني والصيني، مع تسليط الضوء على حجم الإسهام المهم للتفاعل الثقافي والتجاري بين البلدين، لتنتقل دفة الحديث من الماضي إلى الحاضر من أجل مستقبل مزدهر بين البلدين، وكيفية توظيف الطفرة الهائلة في كافة القطاعات التنموية العمانية والصينية لتعزيز مستويات التعاون.
وناقشت الجلسة كذلك المجالات التي من المؤمل تعزيز التعاون فيها، لضمان استدامة العلاقات الثنائية وتطورها، ومن بين هذه المجالات: الإعلام، والثقافة والفنون، والسياحة، والتعليم والزيارات العلمية، وكذلك المعارض المشتركة.
وتطرقت الجلسة إلى التسهيلات والامتيازات التي تقدِّمها سلطنة عُمان للمستثمرين الأجانب، ودورها في الارتقاء بمستوى التبادلات التجارية، والاستثمارات في القطاع اللوجستي، وجذب الاستثمارات المشتركة.
وناقشت الجلسة مبادرة "الحزام والطريق"، واستكشاف دور هذه المبادرة في تعزيز التعاون بين سلطنة عمان والصين.
يُشار إلى أن المنتدى يرتكز على مسيرة 45 عامًا من الصداقة الدبلوماسية بين البلدين، وكذلك الأصداء الطيبة التي رافقت احتفالية تدشين النُّصب التذكاري للبحار الصيني تشنغ خه، في خطوة تبحث إثراء العمقُ التاريخي المُميِّز لعلاقات الصداقة الثنائية بين البلدين.
وهدف المنتدى إلى إضافة جسر التقاء جديد على مائدة التاريخ نحو مستقبل حافل بفرص التعاون على كافة المستويات والصُّعد، وبما يُضفي على مفهوم الصداقة والتعاون بين السلطنة والصين نظرةً استشرافيةً لمستقبل أكثر ازدهارًا ورسوخًا، بفضل الإرادة السياسية السامية لقائدي البلدين، وتوجيهاتهما السديدة لتعزيز أواصر التقارب لفتح مزيد من مجالات التعاون التي تخدم البلدين وتساعد على زيادة رقعة التنمية ويحقق الأهداف المشتركة ويلبي التطلعات الثنائية.
وتضمَّنت أعمالُ الملتقى "معرضًا للصور والوثائق" يَرْوي تاريخًا حافلًا من العلاقات بين البلدين الصديقين.